ربما كان الشاي هو المشروب الوحيد الذي أستطيع شربه في كلّ مكان.
يقول موقع "ويكيبيديا" في تعريف الشاي: "الشاي اسم صيني يطلق على شجرة أو شجيرة وعلى أوراقها وعلى المشروب الذي يصنع من الأوراق، ونباته دائم الخضرة. ينسب إلى نبتة الكاميليا الصينية، وموطنه الأصلي شرق آسيا".
وهل يحتاج الشاي تعريفاً؟ يشرب المرء الشايَ في كلّ مكان، في البيت الذي يولَد فيه، وفي أماكن العمل المختلفة وفي قاعات الانتظار وفي سفن اسطنبول وفي قاعات المحاكم. تصعقني المفاجأة كلّما سمعت بأنّ هذه العائلة لا تشرب الشاي في البيت، أو أنا هذا الشخص أو ذلك لا نشرب الشاي. كيف؟
شاي أبي وچاي أمي
كانت الجدّة نورا تقول بالكرديّة Çay e dengê dinya ye، ما ترجمته بالعربيّة: الشاي هو صوت العالم.
ولدت في بيت يحبّ الشاي أكثر من أيّ مشروب آخر. كنّا نشرب الشاي صبحاً وظهراً وعصراً وليلاً. حين يزورنا ضيوف نشرب الشاي، وحين نزور الآخرين نطلب شربَ الشاي. حين نبرد نشرب الشاي، وحين يشتد الحرّ فالشاي هو الدواء. مشروب طيب ورخيص يناسب عائلتنا الكبيرة الفقيرة. إبريقٌ كبير يكفي أكثر من عشرة أشخاص بجانبه سكريّة وكاسات نظيفة تقف على صحون صغيرة مزخرفة. لا طقس محدّداً لشرب الشاي. فالشاي يُشرب أينما كان وكيفما كان. قبل الطعام وبعده، مع الفطور ومع العشاء وبعد الغداء، في ليالي السمر وفي الأعراس وفي وفي وفي...
كنّا نشرب الشاي بكؤوس زجاجيّة شفّافة صغيرة مخصصة لهذا الغرض، أما أبي فكان يشربه بكؤوس الماء الزجاجيّة الشفّافة الكبيرة، كلّ كأسٍ يشربها تساوي ثلاثاً مما نشرب. كنّا حينذاك، نحن الأطفال، نحبّ الشاي محلىً بالكثير من السكّر الأبيض الرديء الجودة، الذي كنّا نشتريه من مؤسسات الدولة الاستهلاكيّة بأسعار رخيصة، وكنّا نحبّه خفيفاً لم يكتسب لونه الغامق الثقيل، بينما أمي تقول مازحة بلهجتها العراقيّة الحلوة: "شنو هذا اللي تشربونه؟ إنتو السوريين متعرفون تشربون الچاي، أنتم تشربون شاي ونحن نشرب چاي". أمي تحبّ الشاي ثقيلاً داكن اللون. تقول إنّ العراقيين يحبون الچاي حقيقياً ثقيلاً، فيما يشرب السوريون عصير الشاي.
شاي الجامعة
نشرب الشاي في كؤوس شبه نظيفة على طاولات دبِقة وكثير من السكر في كافيتيريا الجامعة، ترافقه سندويشات من جبن أو بطاطا مقليّة. أرضيّة الكافيتيريا غير نظيفة وضجيج أصوات الطلاب أكثر من أن تحتمله أذنٌ طبيعيّة. الشاي رفيق أحلامنا وأفكارنا ومشاريعنا. نحكي عن المستقبل وعمّا نريد أن نفعله. نحكي عن البلاد وعن الثورات وعن البيئة (كنت طالباً في كليّة العلوم البيئيّة في جامعة دمشق) وعن الطلاب وعن الجامعة وسياساتها. كنّا صغاراً بأحلام كبيرة.
في ذلك الزمان، الذي يبدو أنّه أبعد من عصر حروب الرومان والفرس، كنت أهرب من ضجيج الحياة في دمشق إلى مخيم خان الشيح، أشاطر صديقي غرفته شبه المستقلة عن بيت عائلته. نحكي عن الحياة وعن مشكلاتها، نحكي عن الكتابة والقراءة والروايات والشعر. كنت أقرأ لصديقي "أشرف" قصائدَ كنت أكتبها آنذاك، وكنت أقرأ قصائد لمحمود درويش والمتنبي وطاغور ورامبو و و و… أنا أقرأ وأشرف يشرب الشاي ويسمع هذياني.
كنّا أحياناً نلعب ألعاباً إلكترونيّة، والحق أنّها كانت لعبة واحدة، كرة القدم بإصداراتها المختلفة، نلعب ونشرب الشاي ونصرخ بعضنا على بعض ونضحك ولا نعرف أنّ هموم الحياة ومصائبها تنتظرنا عند مفترق الطريق. تحضِر أمّه الطيبة بعض الطعام لنا، وشاياً جديداً، وتقول إنّنا طيبون لكن هبْل.
شاي الغوطة الشرقيّة
بعد خروجي من سوريا، حملت ذنب نجاتي وبعدي. قررت العودة بعد أقل من سنة. بيروت كانت محطة مناسبة في طريق الوصول إلى الشام، ولما حان الوقت المناسب دخلت البلاد بطريقة غير شرعيّة، كما خرجت منها، والهدف المعلن كتابة تحقيق صحافي (نُشر لاحقاً في جريدة "الحياة" تحت عنوان "دمشق: وقائع يومية في مدينة متغيرة على وقع الحرب والنزوح"). لحظات سعادة قُتلت عند أول حاجز أمني. بقيت في مدينة دمشق أسابيع قليلة ومن ثمّ حاولت الخروج من البلاد قاصداً بيروت مرة أخرى. الطريق الوحيد المتاح كان عبر الغوطة الشرقيّة. وصلت الغوطة الشرقيّة وبدأ الحصار. بقيت هناك شهوراً قليلة في ضيافة أشخاص التقيتهم هناك.
لم يملك معظم المدنيين الذين عشت بينهم شيئاً يقدمونه لضيوفهم، باستثناء الشاي. حتى ذلك الوقت كنت أظنّ أنّ الأكراد والأتراك هم أكثر من يشرب الشاي. في الغوطة الشرقيّة، وفي ذلك الزمان، الذي يبدو كأنّه أقدم من زمان حكم المسلمين للأندلس، كان أهل الغوطة لا يتوقفون عن شرب الشاي، كأسٌ تلي الأخرى، وإبريقٌ يلي الآخر. كانوا يشربون الشاي حالما يستيقظون في الصباح حتى يغمضوا عيونهم في الليل.
كانوا يصبّون الشاي في كأسي قبل أن أنهي ما فيها، وكنت أخجل من أن أقول لهم "لا أريد المزيد". مرة لم أحتمل. شربت أكثر من عشر كؤوس صغيرة في أقلَ من ساعتين. قلت لهم: لا أستطيع سأموت إن شربت كأساً أخرى، بطني يكاد ينفجر. ضحك الموجودون وقال مضيفنا لا شيء يستطيع تقديمه للضيوف سوى الشاي، هكذا يظهر كرمه. سكت للحظة ثمّ قال: بالشاي نقتل الوقت قبل أن يقتلنا.
شاي المنفى الألماني
حسناً، كلّ ما سبق كان شاياً أحمر، أو أسود. كنت أظن أنّ هذا ما يسميه كلّ الناس شاياً، وهناك شايٌ آخر يشربه بعض الناس أحياناً، وهو الشاي الأخضر. لا أشياء أخرى اسمها شاي سوى هذين الصنفين. هكذا فهمت الدنيا.
وصلت إلى ألمانيا وتغيّرت نظرتي للدنيا، وللشاي. هنا كلّ الأشياء اسمها شاي: الزهورات شاي، واليانسون شاي، والميرمية شاي، والمتة شاي؛ كلّ عشبةٍ تشرب ساخنة اسمها شاي. يا لهذا الضياع!
تعلمت في ألمانيا شرب القهوة، وأنا من لم يستسغ طعمها قبلاً. أصبحت أفضّل القهوة على الشاي، ولم أعد أشتري شاياً على الإطلاق حتى أعادت صديقة عزيزة، ألمانيّة من جذور عربيّة، زرع ثقافة الشاي في حياتي، ولكن مع بعض التغيير، فقد علمتني أن أشرب كلّ ليلة، قبل موعد النوم بنحو ساعة من الزمن، شاياً أسود مع بعض الحليب، على الطريقة الإيرلنديّة. كان هذا طقسنا شبه اليوميّ، حين كنّا نعيش في بيت واحد.
الآن، أعيش مع شريكتي الألمانيّة وابنتنا الصغيرة. في بيتنا عشرات الأنواع المختلفة من الشاي، واحدٌ منها "شاينا".
أحياناً يفقد شاينا، الشاي الأسود، من بيتنا، دون أن أحسّ. تمرّ أيام وأيام دون أن أتذكر الشاي. أنسى الشاي وكأنّه لم يكن. أنساه وكأنّ لا تاريخ بيننا ولا ذكريات ولا حوادث. أسارع إلى المتجر القريب وأشتري بعضاً منه. أصنع لنفسي كأساً حارة من الشاي وأعتذر منه وأهمس: ما عادت الأيام هي الأيام، وأقرأ قصيدة المتنبي التي تقول:
أَرَقٌ عَلى أَرَقٍ وَمِثلِيَ يَأرَق
وَجَوىً يَزيد وَعَبرَةٌ تَتَرَقرَق
جهد الصَبابَةِ أَن تَكونَ كَما أَرى
عَينٌ مسَهَّدَةٌ وَقَلبٌ يَخفِق
ما لاحَ بَرقٌ أَو تَرَنَّمَ طائِرٌ
إِلّا اِنثَنَيت وَلي فؤادٌ شَيِّق
جَرَّبت مِن نارِ الهَوى ما تَنطَفي
نار الغَضى وَتَكِلّ عَمّا تحرِق
وَعَذَلت أَهلَ العِشقِ حَتّى ذقته
فَعَجِبت كَيفَ يَموت مَن لا يَعشَق.
Comments