أردّدُ مَقاطعَ مِن قصائد الشاعر والروائي والأديب الكردي السوري سليم بركات كلّما اعتراني الحزنُ وكلّما أحسستُ بالوحدة، خاصةً قصائد ديوان البازيار. فأنا مثلُ آخَرين كُثرٍ لا أعودُ مِن قراءةِ سليم بركات كما أدخلُها، فهو في جلِّ ما كتبَ ممكنٌ لقراءاتٍ كثيرةٍ وتأويلاتٍ لا تُحصى، لأنّه مثلما قال في مقابلةٍ من مقابلاته النادرة: "طبعي طبعُ الإشراف من كلّ حافّةٍ على الهاويّة بلا مُستقرٍّ، أو إلى المَدى مُنفلِتاً من الحدود والجهات". لذلك تراهُ ينسفُ كلَّ ما كتبَ سابقاً ليبدأ رحلةً جديدةً مع كلِّ كتابٍ جديدٍ، وهو المسكون بشيطان الكتابة، لا يفرّقُهما سوى الموتُ. ومع كلِّ كتابٍ جديدٍ يجعلُنا نقفُ بين يدي لغتِنا العربيّة التي نستعملُها كلَّ يومٍ موقفَ الجَهَلةِ وكأنّنا لَم نَعرفْ هذه اللغة مِن قَبْلُ، فضلاً عن خَياله الذي لا يحُدُّه حدٌّ ولا يقيِّدُه قَيد.
في قصيدته "أسرى يتقاسمون الكنوز" (من ديوان البازيار) يكتبُ بركات عن نفسه. لكن في كلِّ قراءةٍ ثمّةَ شعورٌ بأنّ بركات يكتبُ عنّا كلّنا، يكتب عن وقتنا الراهن، في شعرٍ يَستشرِفُ المستقبَلَ وكأنّه كلامٌ يصلُ حدَّ الرؤيا إن لَم نَقُل النبوءة. فنراهُ يقول ما نظنّه وصفاً لحرائق حقول القمح في الشمال السوري التي ستندلع بعد اثنتين وثلاثين سنة من تاريخ كتابة القصيدة (1987)، وبالتحديد عام 2019، حين ابتلعَت النيرانُ الأراضيَ الزراعيةَ أياماً متواصلة:
هكذا،
تسهر المعجزة قرب الحريق الذي يُضرمه العاديّون.
هكذا،
إلهي،
أدلُّ عليّ مغاليقك التي لا تنتهي،
وأنا أوهمُ أسرايَ أنّ لي شكيمة النرجس وسطوة العبيثران،
وأتذرع بك كي أقوِّلَ النعمة ما لن يقوله الموت.
أحسّ بأن بعض الشعر من مراتب الرؤى، وشعر بركات يكون أحياناً كذلك. أليس المقطع السابق استبصاراً لمستقبلٍ بعيد، أو كيف كَتَبَ ما كَتَبَ في قصيدة "تدابير عائليّة" (ديوان البازيار) قبل بدء المَقتلة السورية بأكثر من عقدين من الزمن حين قال:
ثمّ. وماذا في الحُطام الأنيق – ثمّ – إلّا منازلُ هاربةٌ تتعثّر بالقتلى، والسكون الضاري هو السكون الضاري: قطارٌ من المسافة إلى الوقت، بمقطوراتٍ تَسرقُ الأقاليمَ والظلال، وهي تخترق الغد السوريّ من الدم إلى الدم.
البازيار هو حامل الباز والشخص الذي يُعنى به. والباز هو الباشق أعظم الطيور الجوارح. وبركات يحبّ الحيوانات حباً لا يشابهه سوى حبّه للطبخ وللكتابة، حتى أنّه خصّص كتباً وقصائدَ لإعادة تعريف الحيوانات. في قراءتي الأخيرة للديوان فكرتُ أنّ بركات يحكي في هذا الديوان عن نفسه، ويصف نفسه بالبازيار، أو ربّما يصفني، أنا القارئ المتماهي مع ما يكتب، بالبازيار.
يقول الناقد السوري المقيم في فرنسا صبحي حديدي في تقديمه للأعمال الكاملة لسليم بركات عن قصائد مجموعة بركات السابعة (البازيار) الصادرة عام 1991 إنّ قصائد هذه المجموعة "سوف تعكس عودته إلى نوع من السكينة الأسلوبيّة، التأمّل الأكثر هدوءاً في التاريخ الشخصي والذاكرة الجمعيّة والمحيط الجغرافي".
يتألف الديوان من أربع قصائد هي "أسرى يتقاسمون الكنوز" و"محمود درويش" و"مهاباد" و"تدابير عائلية". في هذا الديوان كمعظم قصائده يبدأ سليم بركات من الأعلى محمولاً بشعريّةٍ لا تعرف المهادنة، منذ السطر الأول يأخذنا نحو أقصى ما يمكن ثم يمضي بنا بعيداً مع كلّ كلمةٍ جديدةٍ يكتبها فتدخل لغته في علاقاتٍ جديدةٍ وتدفع القارئَ إلى قراءة كلّ مفردةٍ قراءةً متمهلةً وكأنّ القارئ يمضغ الكلام مضغاً بطيئاً حتى يهضمه كلّه. فمثلاً يبدأ بركات قصيدة "تدابير عائليّة" من أقصى أقاصي الحنين:
عُضّ المكان أيها الحنين، عُضّ المكان.
وأنتَ أيها الضوءُ، عضّ الهواء الحالم، الذي يرفع "طوروس" سفحاً سفحاً إلى أنينه الجبليّ.
وبمثل هذا الحنين يبدأ قصيدة "أسرى يتقاسمون الكنوز":
شامتةً تقتحم الحياةُ بخزّافيها المشهدَ.
فلأنهضْ، لا ليُؤنِسني الذي أراه، بل لأخفي عن الحياة حنينيَ المكسور.
يقول الشاعر والناقد والمترجم اللبناني "بول شاوول" إنّ "سليم بركات أكثر من حالم. هو صانع أحلام".
أحسُّ أنّ أيَّ كلامٍ في عُجالةٍ يَبخسُ سليم بركات حقَّه. لكنّي أحاولُ التأمّلَ في بعض الملاحظات التي كتبتُها عنه حين قرأتُ رواياتِه بأنماطها المختلفة، وقصائدَه مختلفةَ الطولِ والموضوعاتِ في فتراتٍ زمنيةٍ مختلفة. كنتُ ألاحظُ اختلافَ ملاحظاتي عنه باختلاف الوقت الذي أقرأُه فيه واختلاف الوقت الذي كَتَبَ فيه ما كَتَب. ربّما حَدّدَ الزمنُ والحالةُ النفسيّةُ والحياتيّةُ للكاتب سليم والقارئ دلير مدى إعجابي بنصٍّ دون آخَر.
أفكّرُ في قرارةِ نفسي بكَسَلِ القرّاءِ والقارئاتِ حين يحتاجون تعريفاً بشخصٍ مثلَ سليم بركات. وهو رجلٌ كتبَ حوالي ستين كتاباً بين شِعرٍ وروايةٍ ونصوصٍ، وعملَ في الصحافة العربيّة في بيروت وقبرص. كاتبٌ ترشّحَ إلى عدّدٍ من الجوائز المرموقة ونال بعضَها، وكان مؤثّراً ومتأثراً بتشكيلِ المشهد الثقافي الناطق بالعربيّة منذ سبعينيات القرن المنصرم.
قال محمود درويش، أحد أشهر الشعراء العرب في العصر الحديث، إنّه جاهدَ كي لا يتأثرَ بشِعرِ صديقِه سليم بركات، وكتبَ فيه واحدةً من قصائده الشهيرة "ليس للكرديِّ إلّا الريح" وذَكرَه في بعض كتاباته النثريةِ الأُخرى. وقال عنه أدونيس إنّ "اللغة العربية في جيبِ هذا الشاعر الكردي". وقال عنه قاسم حدّاد: "بركات نموذجٌ يستعصي على القرائن. هو جهدُ الجواهرجي، ودِقّةُ الجرّاح، وكفاءةُ الإبرة".
في نهاية معظم كُتُب سليم بركات تعريفٌ واحدٌ تحت عنوان "نبذةٌ مختصرةٌ عن الكاتب سليم بركات"، مكتوبٌ فيها: "شاعرٌ وروائيٌ سوريٌ، كرديٌ، قويُّ البناء، فريدٌ، نسيجُ وَحْدِه في وصفِ النقد لأعماله ... ما مِن امتثالٍ عندَه لنمطٍ أو مذهب. عنيدٌ في نحتِه العِبارةَ بلا خوفٍ من المَجازات ... بركات من مواليد مدينة القامشلي، في الشمال السوري سنة 1951. انتقل إلى دمشق ملتحقاً بالجامعة، دارساً اللغةَ العربيةَ سنةً واحدةً، قبل أن يغادر إلى بيروت في العام 1972، ومنها إلى قبرص سنة 1982، ثم إلى السويد في العام 1999 حيث يقيم".
كتبَ بركات مقالاتٍ لصحفٍ عربيّةٍ كبرى، كصحيفة "الحياة" اللندنية و"القدس العربي" وغيرهما، وكان محرّراً في صحيفة "الكرمل" الفلسطينية التي تَرَأَّسَ تحريرَها محمود درويش. انضمَّ بركات وهو في بيروت إلى منظّمة التحرير الفلسطينية، وحَمَلَ السلاحَ مع القوات الفلسطينيّة في بيروت، وكتبَ عن ذلك في بعض مقالاته.
انتقلَ بركات إلى قبرص حين اجتاحت إسرائيلُ بيروتَ وخرجَت القواتُ الفلسطينيّةُ من المدينة، وشيئاً فشيئاً تفرّغَ للكتابة. تَلقَّى عرضاً للذهاب إلى السويد، فانتقل إلى هناك عام 1999 واستقَرَّ في غابات سكوغوس بالقرب من ستوكهولم. ويقول في إحدى المقابَلات إنّه رَغِبَ في البقاء في قبرص طوالَ العُمرِ، لكنّه لَم يستطِع تحصيلَ معجزةٍ اسمُها خمسُمئةِ دولارٍ في الشهر. لَم يستطِع إعالةَ نفسِه وأُسرتِه فطارَ إلى السويد واعتزَلَ الحياةَ. صارَ وحشاً يعيش في كهفِ الكتابةِ لا يَخرجُ منها.
منذُ غادَرَ سوريا سنة 1972 لَم يعُد سليم بركات إليها، ولَم يعُد إلى مدينته القامشلي، مع أنّه كتبَ عنها بعضَ أجملِ أعماله: "ديوان سوريا" (2015)، "السيرتان" (1980 - 1982)، "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟" (2019)، "فقهاء الظلام" (1985). وممّا كتبَ في "ديوان سوريا":
تجرَّعْ، أيها البلدُ، الرياحَ فِراقا. فِراقا كنتَ. امتَحنتَني فِراقاً يُعادُ هَضّا. عجِّلْ. هاتفُ الفراقِ معادٌ. أإذا امْتُحِنتَ امتُحِنتُ؟ أَمُقتضَى سياقٍ أنتَ، أَمْ ضرورةُ النكبةِ رؤوفا؟ نكبةٌ رؤوفٌ. ذُخراً رُجِيتَ لليأسِ وإيمانهِ. لا عَهْدَ. بَلَوْتَني. رُكبتايَ خارَتا.
يَتفاعلُ سليم مع العالَم بكُتبِه. وربّما، أقولُ ربّما، صار يخاف من الناس. صار يخاف من كلّ شيءٍ. وبالكتابة صنعَ لنفسِه دَرَقَةً تتكون من صفائحَ صلبةٍ متراصةٍ مثل تلك التي تحمي السلحفاةَ، يحمي بها نفسَه من العالَم. أتخيّله أحياناً في مطبخه، يطهو أصناف طعامٍ مختلفةٍ، وهو يفكّر بشخصيةٍ يكتبها أو بقصيدةٍ ترنُّ في خياله كصلصلةِ الخلخال.
قلتُ كثيراً لأصدقائي إنّ كاتبَين اثنين أتمنّى لو أجلسُ معهما إلى طاولة العشاء. أحدُهما سليم بركات والآخَرُ هو الأمريكي بول أوستر. لا أريد شيئاً سوى أن نتحدث عن فيلمٍ نحبُّه نحن الاثنان، أو عن روايةٍ تَعلَّقنا بشخصياتها.
تواصلتُ مع بركات مرّتَين. مرّةً كتبتُ له رسالةً بعد نشرِها في موقعٍ إلكترونيٍ، ثمّ أرسلتُها له مكتوبةً بخطّ اليدِ بالبريد. أرسلَ إليَّ بالمقابلِ قصاصةً ورقيّةً كتبَ لي فيها شُكراً. وفي المرّة الثانية أرسلتُ له نسخةً من أحدِ كُتُبي، كنتُ قد نشرتُ الرسالةَ فيها، فأرسلَ لي ثلاثَ لوحاتٍ مِن رسمِه. والرسمُ هوايةٌ قديمةٌ كانت عنده وقد توقّفَ عنها.
فكّرتُ أن أسافرَ إليه وأطلبَ منه أن يدعوَني إلى عشاءٍ ما، لكن خفتُ ألّا تطابقَ صورتُه في ذهني شخصيتَه الحقيقيةَ، أو أن يكونَ مثلما أتخيّلُ فأُعجَبَ به وأَبقَى أكثرَ من الوقت المفترَضِ لزيارةٍ قصيرةٍ فأُوقِفَه عن الكتابة.
هل مِن الأنانيةِ أن يقولَ المرءُ: لا أريدُ لسليم بركات أن يتوقّفَ عن الكتابة.
لسليم كتبٌ "سهلةُ القراءة"، على أنّي أعتقدُ أنّ كلَّ كُتبِه سهلةُ القراءة. مع ذلك، ربّما تكون اللغةُ بسيطةً وسهلةً في بعض الكتب، مثلما كتبَ في سيرته الذاتية (السيرَتان) وفي رواياتِ "السماء شاغرةٌ فوق أورشليم" و"هياج الإوز" و"ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟". يُظلَمُ سليم بركات عند تأطيره في خانةِ اللغةِ الصعبةِ المعقّدةِ فقط، بينما يَخلقُ في بعضِ رواياته عوالمَ كاملةً معقّدةً رائعةً، وفيها بناءُ شخصياتٍ روائيةٍ فريدٌ، مثل روايات "أقاليم الجن" و"ميدوسا لا تسرح شعرها" و"سجناء جبل أيايانو الشرقي".
في الشِعر أيضاً، يُظلَم سليم حين يُوضَع في خانةِ اللغة الصعبة فقط. ففي قصائده شِاعريّةٌ ورهافةٌ ولغةٌ وبناءٌ وخيالٌ عالٍ. ويمكن ملاحظةُ ذلك مثلاً في قصائده الأولى، مثل قصيدة "تدابير عائلية" التي ذكرتُها سابقاً. وأعتقدُ أنّه في "قصيدة سوريا" المفضّلةِ عندي بين قصائده، كتبَ أجملَ وأرهفَ وأصدقَ ما كُتِبَ عن سوريا.
أعتقد أنّ كثيراً من القرّاء والقارئات يميلون عادةً إلى الاستسهال، إلى قراءة الحكاية السهلة، ولا يفرّقون بين الحكاية وبين البناء الروائي. ربّما كان ذلك بسبب التراث المجتمعي القائم على حكايات الجدّات وحكواتيّ المقهى، وإلى ميلٍ عامٍّ عند جلِّ الناس إلى السهل البسيط. ومع ذلك، فإني أعتقد أن هناك ضعفاً في تعليم اللغة العربيّة الفصحى وفهمها في معظم المجتمعات العربيّة، فضلاً عن وجود كلماتٍ فصيحةٍ تُستخدم في لهجاتٍ عاميّةٍ ولا تستخدم في أُخرى، فيَستعصي فهمُها على البعض. وهذا هو حالُ سليم بركات، فهو يستعمل كلماتٍ يراها الكثيرون غيرَ مفهومةٍ مع أنّها فصيحةٌ وتُستخدَم في لهجاتٍ عامّيةٍ مختلفة. ومع كل ذلك يبدو أحياناً أنّ سليم بركات، الضليعَ في العربية والمتمكنَ منها، "يَطلبُ عند الناس ما عندَ نفسِه" على قول المتنبي. أذكرُ مرّةً أنّني قرأتُ تعليقاً لأحدهم يقول إنّه لَم يَفهم سليم بركات لأنّه يستعمل كلماتٍ مُعجميّةً، وأوردَ كلمةَ "الشصّ" أي الصنّارة مثالاً على كلامه. وهو محقٌّ في أن الشصّ كلمةٌ معجميةٌ فهي عربيةٌ نجدُها في كتب اللغة، وهي مع ذلك مستعمَلةٌ بكثرةٍ في المدن الساحلية اللبنانية والسورية ويعرفها كلُّ من يعمل في الصيد هناك.
أعتقد أحياناً أنّ من الوقاحة القولَ بإنّ على القارئ أن يطوِّرَ من نفسه حتى يستطيع قراءةَ سليم بركات، وقراءةَ كتّابٍ وكاتباتٍ آخَرين. لكن هذا ما أشعرُ به في كثيرٍ من الأحيان حين أقرأ تعليقاتٍ على لغةِ سليم بركات الصعبةِ. ليس هذا دفاعاً عن سليم بركات فقط، فالمرء قد لا يستطيع فهمَ قصائد المتنبّي فورَ قراءتها مثلاً، إذْ عليه أن يقرأ كثيراً قبل أن يقرأ المتنبي. وكذلك كتبُ الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو؛ ربما يحتاج المرءُ قراءةَ مئاتِ الكتب حتى يستطيع فهمَه. لا يستمتع المرءُ بقراءة الكاتبة الإنجليزية فيرجينيا وولف إن لم يكن قد قرأ كثيراً قبلها. هل هذا يعني أن المتنبي أو فوكو أو وولف كتّابٌ سيّئون، هل يعني أن لغتَهم صعبةٌ، هل يعني أنّه كان عليهم التسهيل حتى يستطيع القارئ فهمَهم. إنما يعني ذلك أن قراءة بعض النصوص يتطلّب مخزوناً معرفياً ولغوياً واسعاً لكي يلمَّ من يقرؤها بمعانيها المجمَلة ودقائقها الخفية لأنها في الكثير من الأحيان تحتوي على إشاراتٍ ومفاهيمَ متناثرةٍ في المئات من الكتب.
في رواية "زئير الظلال في حدائق زنوبيا" يحكي سليم سيرةَ زنوبيا "بوصفِها امرأةً حَكمَت بمزاجٍ ضدّ الإمبراطورية الرومانيّة، وهُزِمَت" ويستعيد سيرتَها المخبّأةَ وينأى بنفسه عن الحكاية الشائعة عن المرأة التي حَكمَت مملكةَ تدمر ووَقفَت في وجه الإمبراطوريّة الرومانيّة في أوجِ عظمتِها. يأخذ الحكايةَ إلى زوايا أُخرى، ويُعرّفُنا على قصةِ تدمر وزنوبيا من وجهة نظرٍ جديدة. لكن ليس بشكلٍ تاريخيٍ توثيقيٍ، بل ببناءِ خيالٍ روائيٍ محكَم. كذا الأمرُ في رواية "السماء شاغرة فوق أورشليم" بجزأيها، يحكي بركات عن الحملات الصليبيّة وعن صلاح الدين ومعارك شرق المتوسط، لكنه يبتعد عن الحكاية المعروفة وعن شخصياتِ التاريخِ الرئيسةِ ويحكي لنا الحكايةَ من وجهةِ نظرِ توران موسى شير، أحدِ المقاتلين الأكراد في جيش صلاح الدين. وكلُّ ذلك يتطلّب اطّلاعاً مسبَقاً على التاريخ والأساطير حتى يتسنّى للقارئ فهمُ سليم بركات فهماً جيداً.
نرى الأمرَ كذلك في أعمالٍ أُخرى. ففي رواية "ماذا عن السيدة اليهوديّة راحيل؟" يعود إلى القامشلي ويحكي لنا حكاياتٍ تبدو عالقةً في ذهنه منذ أيام الطفولة مبتعداً عن الحكايات التي فرضَتها الدكتاتوريّةُ على المدينة. في رواياتٍ أُخرى مثل "حوريّة الماء وبناتها" و"سجناء جبل أيايانو الشرقيّ" و"أقاليم الجن" و"ميدوسا لا تسرّح شعرها" نرى قصصاً "تمزج بين الرمز والأسطورة وتقعُ في عوالمَ خياليّةٍ تماماً" على حدّ وصف المترجم السويدي جوناثان مورين، والذي ترجم لبركات عدداً من الكتب إلى اللغة السويديّة. أمّا في رواياته الأُولى، مثل "أرواح هندسيّة" التي تحكي عن الحرب الأهليّة اللبنانيّة و"الريش" والتي تحكي عن الأكراد وعن حقوقهم ومآسيهم، نراه يَنزع إلى الواقعيّة السحريّة ليكون بالفعل كاتباً أصيلاً في الأدب العربي. نرى سليم بركات يتأمل في كل عملٍ من أعماله شيئاً ما: حيواناً أو بلداً أو شعوراً أو جماداً. يقلّبُ هذا الشيءَ على جوانبه ويراه من كلّ الاتجاهات ويحكي لنا عن أصله وتاريخه ومستقبله. في "الغزليّة الكبرى" يفصفص الغزلَ حتى يصلَ إلى ذروته. وفي "تنبيه الحيوان إلى أنسابه" يعيد تعريفَ حيواناتٍ نعرفها وحيواناتٍ أسطوريّةٍ يعرّفُنا عليها. وهكذا إنه رجلٌ خلقَ نفسَه بنفسِه. وخلقَ أعمالَه بصورةٍ تطلبُ ممّن يقرؤها التأملَ والتمهلَ وفوق كلّ ذلك المعرفةَ.
بكلّ الأحوال أَرى أن سليم بركات حالةٌ فريدةٌ في الأدب العربي، لا تشبه شيئاً سبقَها. لدى الرجل فرادةٌ رهيبةٌ، إذ كيف يستطيع أن يكتب بهذه البلاغة والكثافة والكثرة؟ من أين يأتي باللغة؟ من أين يأتي بالخيال؟ سليم بركات هديةُ مدينة عامودا إلى العالم. وكتابتُه هديّتُه الشخصيّةُ إلى هذا الكون. لكن ربما في فهمه للزمن أمارةٌ على هذا القلق الدائم، على هذا السعي وراء الصورة والمعنى اللذَين لَم يُطرَقا مِن قَبل. في حواره المطوَّل الذي نُشر في 2020 في كتابٍ بعنوان "لوعةٌ كالرياضيات وحنينٌ كالهندسة" مع الشاعر العراقي وليد هرمز، الذي تولّى تنضيدَ معظم ما كَتَبَ سليم (فسليم بركات يكتبُ بالقلم، ووليد هرمز ينقلُه إلى الحاسوب طباعةً) يقول سليم بركات في حديثه عن الشِعر وعن نوع الشِعر الذي يكتبُه وعلاقتِه بالزمن: "الزمنُ الآن يطنُّ طنينَ السِّلكِ المشدودِ قويّاً بين الصخرة المتدحرجة والأعناق المطوَّقة بنهاية ذلك السلك. وهو، قطعاً، ليسَ سلكَ طنبورٌ أو قيثارة".
إذَن، أساسُ القراءةِ الصبرُ. والتعبُ فرضٌ عند قراءةِ بعضِهم. أقول ذلك لأن القراءة مهما بدت صعبةً ومهما تطلبَت من جهدٍ ووقتٍ تستحقُ كلَّ ذلك وأكثرَ. وهذه تجربتي مع سليم بركات.
يقول الروائي اللبناني إلياس خوري بما معناه إنّ الكتابةَ تأخذ مِن الواقع ومن ثمّ نقرأ الكتابَ ونأخذ منه بعضَ الأشياء معنا إلى الواقع، ومن ثمّ تأتي كتبٌ أُخرى لتأخذَ مِن هذا الواقع، وهكذا في دورةٍ لا نهائية. ربّما لذلك يحسّ المرءُ بأنّه عاش ما تعيشُه شخصياتُ كتابٍ ما. أحياناً أشعرُ بأنّني مَن كَتَبَ "السيرتان" لسليم بركات، وأحياناً أشعر بأنّني مراهقُ روايةِ "الحارس في حقل الشوفان" للكاتب الأمريكي جيروم ديفيد سالينجر وأحياناً أشعر أن الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد كَتبَتْ قصيدةً خاصةً لي، أو أشعرُ بأنّني خليل في روايةِ "باب الشمس" لإلياس خوري أو "المقامر" في رواية الروسي فيودور دوستويفسكي أو بطلُ روايةِ "طيف ألكسندر وولف" للروسي جازدانوف.
كلُّ روايةٍ وكلُّ قصيدةٍ وكلُّ قصةٍ وكلُّ كتابٍ بِغَضِّ النظرِ عن جودتِه، كَشَفَ لي أشياءَ لَم أكن أعرفُها عن نفسي. أرى القراءةَ والكتابةَ وسيلةَ اكتشافٍ مستمرّةً غيرَ منتهية. القراءةُ تعملُ بشكلٍ مستمرٍ على تغيير قناعاتِ المرءِ. أيُّ صفحةٍ أُولى من أيِّ كتابٍ هي مخاطَرةٌ جديدةٌ لتغييرِ قناعاتٍ وأفكارٍ راسخةٍ لدى المرء. أسألُ نفسي كثيراً عن أسبابِ القراءة، ما الذي يدفعني للقراءة وقضاء وقتٍ طويلٍ بين الصفحات، لماذا أصرفُ نقودي القليلةَ لأشتري كتباً قد أُحبُّها وقد لا أُحبُّها. ما الذي تفعله القراءةُ بنا؟ أنكونُ نحنُ نحنُ لَو لَم يكن هناك كتبٌ ورواياتٌ وقصائد؟
أسألُ نفسي:
ماذا تريد مِن مشاهَدة الأفلام؟
أن أرى العالَمَ بعينٍ جديدة.
ما الذي تريده مِن الكتابة؟
أن أستمرّ بفعلِها.
وماذا تريد مِن القراءة؟
أن أعرفَ وجهي.
ما تريد مِن الحياة؟
أن أستمرّ بالحُلم.
وماذا تريد مِن الأحلام؟
أن أعيش.
لا أشعرُ أنّني بالقراءة أبتعد عن الحياة. لا، بل أندمج فيها. أصير شيئاً واحداً مع أحداث الكتابِ ومَشاعرِه، "فانتازيا" غير موجودةٍ إلّا في عقلي. أختفي من العالَم بالقراءة وأبتعد عن الأشياء الغبيّةِ التي تحتلُّ مساحةً كبيرةً من الحياة، وعن الأصوات الغبيّة العاليّة والمزعجة. أصيرُ شيئاً من الأشياء. أختفي وأصيرُ جماداً، صخرةً، منضدةً أو مقعداً، أصيرُ باباً أو إطارَ نافذةٍ. أَتَلاشى وأَختفي وأَتماهى مع الوجود، أصيرُ هواءً لا مرئياً.
وكالعادة، أجدُ الإجابةَ عند سليم بركات الذي يقول في قصيدةِ "أسرى يتقاسمون الكنوز":
ربما،
ربما،
- "تصبحون على خيرٍ".
- "تصبحون على ألقٍ".
- "تصبحون على عدمٍ مدرَجٍ في قائمة الطعام".
"يا لَروحي المغلوبةِ على أمومتِها":
هذا ما أقوله، وأنا أغادرُكم مِن الباب الخلفيّ المُفضي إلى الحياة.
لكنّ أسرايَ يبقون هناك، في انتظارِ أن أُحرِّرَ الأزلَ مِن الحمى.
وأسرايَ مُلْكُ مشاغلِهم، يدبِّرون لي عذوبةَ المضيِّ بالخسارة إلى أَلَقِها. مُباهِين بسُفنٍ ليست لهم، يبسطون على الأرضِ أشرعةً من خيالِ الماء، متموّجةً، كأنّما تلدُ الظلالُ نسلاً من الحبال المشدودةِ إلى كَوْثَلِ الفجيعة.
أعود لقراءةِ هذا الشِعرِ، شِعرِ بركات، في هذه الأيام الثقيلة علينا وعلى بلادنا، هذه الأيام التي تُشعِرُنا بالفراغِ الذي نغرقُ فيه، هذا الفراغِ الذي يشبه الثقبَ الأسودَ الذي يبلعُنا ويبلعُ مشاعرَنا ويجعلُنا نعيش في فقاعاتٍ تصغر وتصغر. أتماهى مع بعضِ ما أقرأ، مع هذه القصيدة مثلاً، أفكّرُ بروحي "المغلوبة على أمومتها"، وأقول للناس ها أنذا "أغادركم من الباب الخلفي المُفضي إلى الحياة". أشعرُ بنفسي شخصاً أو شيئاً آخَرَ، كينونةً مختلفةً عن نفسي. أختفي، يختفي دلير يوسف، وتظهرُ شخصيّةٌ أو شخصياتٌ جديدةٌ، تتفاعل مع بعضِها دون تدخّلٍ منّي. أصيرُ شيئاً آخَرَ، وأتماهى مع ما أقرأُ، فأصيرُ قطعةً أبديّةً من هذا الكون.
نهربُ نحنُ الضعفاءُ كلّما ازدادت قسوةُ الحياة علينا إلى الشِعر والموسيقى، ملجئِنا الأخيرِ في وجهِ قسوةِ هذا العالَمِ.
Comments