في العام 2015 توجهت برفقة أحد أصدقائي الألمان، وهو صحفي يعمل لدى واحدة من أكبر الصحف الألمانيّة، نحو مدينة كوباني، والتي كانت قد أنهت مؤخرًا معركة تابعها العالم كلّه، من شرقه إلى غربه، ضدّ تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام، أو تنظيم داعش كما بات يُعرف إعلاميًا وشعبيًا.
قبل ذلك كانت الصحيفة التي يعمل لديها صديقي قد طلبت مني مرافقته من برلين، حيث يعيش كلانا، إلى بلدي الأم، سوريا، وبالتحديد إلى مدينة كوباني، عروس نشرات الأخبار آنذاك، من أجل مساعدته في كتابة قصته، وأن أكون بمثابة "فيكسر"، أو منسق، لمهمته في شمال سوريا، وذلك حين علمتْ برغبتي في كتابة قصة صحفيّة من هناك.
توجهنا إلى كوباني انطلاقًا من ألمانيا، ولدى صديقي مهمة كتابة قصته، ولديّ مهمتان؛ الأولى أن أكتب قصتي الصحفيّة، والتي ستنشر لاحقًا في جريدة الحياة اللندنيّة تحت عنوان "كوباني هزمت داعش وأستاذ المدرسة الكردي استعاد لقبه"، والثانيّة أن أكون مُنسّقًا له.
حسنًا، عملتُ سابقًا مع صحفيين وصحفيات قادمين من بلاد أوروبيّة وأمريكيّة، في لبنان وفي سوريا، لكنّني لم أعمل كصحفيّ ومنسّق في آن واحد قبل ذلك. والمنسّق/ة مثلما يُعرّفون، "أشخاصٌ محليّون يعملون خلف الكواليس لمساعدة المراسلين الأجانب في إنجاز أعمالهم. وهم يعملون كمترجمين فوريين، ويقومون بحجز الفنادق والسائقين، وحجز المقابلات، والوصول الآمن إلى المواقع ويعملون إلى حدّ كبير في الظل، ولا يُنسب لهم الفضل غالبًا في إنجاز العمل الصحفي".
وصلنا إلى قرية قريبة من كوباني، استقبلنا بعض الأهالي العائدين حديثًا إلى بيوتهم، وكنّا بضعة صحفيين من ألمانيا والنمسا وتركيا والولايات المتحدة الأمريكيّة والبرازيل. كنتُ الوحيد في هذه المجموعة الذي يحكي العربيّة والإنجليزيّة والكرديّة والألمانيّة، فصرت أترجم بين الجميع وأتواصل مع الجميع؛ بين الأهالي من جهة والصحفيين من جهة أخرى، وهكذا أصبحتُ "فيكسر" مجموعة صحفيين، عوضًا عن أن أكون "فيكسر" شخص واحد.
في هذه القريّة دخلت كلّ البيوت تقريبًا، أدخلني أصحابها الأكراد، كي أترجم لهم ما كتبه جُند داعش على جدران بيوتهم بالعربيّة، فهم لا يتقنون هذه اللغة، أترجم ما كُتب إلى اللغة الكرديّة من أجل السكّان، ومن ثمّ إلى اللغة الإنجليزيّة من أجل الصحفيين.
شكرني سكّان القريّة بتقديم طعام إفطار لطيف في الهواء الطلق، لي ولباقي الصحفيين، ولم يسمحوا لنا بالمغادرة إلى مقصدنا في كوباني، حتى ننهي فطورنا ونستمتع قليلًا بأحاديثهم. كنتُ حينها محور الحديث بسبب إتقاني لغات مختلفة، ولأنّني ابن الشمال السوري، وأعرف عاداتهم وتقاليدهم، فصرتُ أترجم بين الجميع وأتبادل أطراف الحديث مع الجميع.
بعد أن وصلنا كوباني، قال لي صديقي، الصحفي الألماني، إنّه لم يرَ في حياته صحفيًا أو منسقًا قادرًا على كسب ودّ الكثير من الناس بهذه الطريقة، فدار حديث بيننا وصلنا فيه إلى نتيجة أنّ مفتاح الوصول إلى المعلومات وحكايات الناس هو بناء الثقة معهم، وبناء الثقة يأتي بالانحياز إلى جهة الناس أصحاب هذه الحكايات، والناس أذكياء، يشعرون بالصحفيّ/ة المنحاز لهم والذي يريد أن يحكي حكاياتهم، وكذلك يشعرون بالصحفيّ/ة الذي يراهم موضوعًا لمادته الصحفي، لا أكثر.
كسب ثقة الناس والانحياز للمظلومين والضعفاء، هذه من أهم معاييري الشخصيّة للصحفي/ة الجيّد/ة، وللمنسّق/ة الجيد/ة كذلك.
مع اختلاف المهام، واختلاف الأكاديميين في التصنيفات، لكنّني، وبشكل شخصي أرى أنّ عمل المُنسّق/ة في جزء منه عملٌ صحفيّ. قد لا يملك المُنسّق/ة كلّ مهارات الصحفيّ/ة، لكنه يمتلك بعضها على الأقل، مثل القدرة على الوصول إلى المعلومات والقدرة على بناء الثقة مع المجتمع المحلي.
لكن يُضاف إلى ذلك معرفته بتفاصيل الصراع إن كان في منطقة حرب، أو على دراية كاملة بالقصة الصحفيّة الذي يعمل عليه، وحيازته على المعلومات الجغرافيّة اللازمة لإنجاز المهمة المطلوبة منه، وإجادته للغة المجتمع المحلي، وهي مهارات قد لا تتوفر لدى الصحفيّ/ة في مناطق جغرافيّة معينة، فمن غير المطلوب من الصحفيّ/ة أو المراسل/ة في منطقة ما، معرفة لغة ذلك المكان أو طبيعته الجغرافيّة أو طريقة التعامل مع وسائل النقل، كلّ هذا مطلوب من المُنسّق/ة، أو الفيكسر كما هي التسميّة الشائعة.
المنسّقون هم قادة فريق العمل، والمسؤولون عن أمن وسلامة المرافقين لهم، فهم الذين يعرفون المكان وتفاصيله، وهم من يؤمنون وسائل النقل والاتصال والتواصل، هم القادة الفعليون في الشق الميداني من العمل، لكنهم المجهولون من قبل القرّاء أو المشاهدين أو المستمعين، يحصلون على مبلغ من المال، أو أيّ شيء آخر تمّ الاتفاق عليه مسبقًا، وهذا كلّ ما في الأمر.
يتبع الصحفيون والصحفيات، المنسقين، وخاصة في مناطق الحرب والنزاع، فإنّ لم يتم الاستماع لهم ولقراراتهم ونصائحهم، فمن الممكن أن تفقد الأمور زِمامها، ويُلقى القبض على المجموعة الصحفيّة أو أن يتم استهدافها واختطافها أو تصفيتها، وهذه أمور حدثت كثيرًا، وهذا يأخذنا إلى الحديث عن الثقة.
لا يصح العمل بين الصحفيّ/ة والمنسّق/ة دون وجود ثقة كاملة متبادلة بين الطرفين، فكم من المرات عمل صحفييون مع منسّقين لا يعرفونهم، فقام المنسّقون بتسليم الصحفيين إلى جهات متصارعة، طلبًا لبعض المال أو لأهداف إيديولجيّة! والأمثلة كثيرة.
من الأمور المهمة المطلوبة لدى المُنسّق/ة، حساسيتهم (أو نسميها حاستهم السادسة؟!) وفطنتهم وعدم تسرّعهم في اتخاذ القرارات، وخاصة في مناطق الصراع، فعلى المنسّق/ة أن يعرفوا تفاصيل المنطقة بشكل جيد، وأن يعملوا على اتباع القانون المُتّبع في المنطقة التي يعملون فيها، وفي التحولات السريعة الدائرة في تلك المنطقة، مثل تغيير مناطق النفوذ العسكري، من أجل إنجاز العمل بسهولة دون عراقيل، وذلك لأنّ المنسّقين هم المسؤولون بشكل أساسي عن أمن وسلامة الفريق كلّه منذ بداية العمل وحتى نهايته.
بشكل رئيسي تُقسّم مهام المُنسّق/ة إلى شقين أساسيين، الأول قبل بدء العمل، والثاني خلال فترات العمل. على المنسّق/ة أن يعمل على تجهيز وسائل النقل ووسائل التواصل والاتصال قبل مجيء الصحفيّ/ة وتحضير الأدوات اللازمة وأماكن النوم، والتعرّف على المنطقة، والتعرّف على آخر المستجدات القانونيّة والعسكريّة والاجتماعيّة في المنطقة، والبحث عن الشخصيّات التي سيقابلها الصحفيّ/ة وتعيين مواعيد لإجراء المقابلات معهم، والبحث عن كافة التسهيلات التي من الممكن أن يقدمها للفريق الصحفي.
أما أثناء العمل، وكما ذكرنا سابقًا، فإنّ مهام المُنسّق/ة فهي تنسيق وصول إلى الصحفيّ/ة إلى المناطق التي يريدها/ تريدها، وتسهيل إنجاز جميع المهمّات من أجل الغاية النهائيّة، وهي إنتاج قصة صحفيّة ذات سويّة عاليّة مع الحفاظ على أمن وسلامة الفريق الصحفي والمتعاونين معه جميعًا.
الفيكسر هو بطل الظل، هو الجندي الذي لا يذكره أحد إن مات في معركة ما، وهو الجندي الذي لا يذكره أحد إن فاز/ت الصحفيّ/ة بجائزة ما عن قصته التي ما كانت ستخرج إلى الضوء لولا هذا/ هذه الفيكسر.
في المرحلة الأولى تكون مهمّات المُنسّق/ة هي: الاطلاع ومعرفة كلّ المستجدات المُتعلّقة بأماكن النفوذ السياسي والعسكري. ومن ثمّ تأمين طرقات الوصول وتأمين الموافقات اللازمة والتواصل مع المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين لتسهيل التنقّلات والحصول على الموافقات الضروريّة للوصول إلى المكان المُراد، وكذلك الموافقات الخاصة بالتصوير وإجراء المقابلات.
يُضاف إلى ذلك تأمين أماكن للنوم وللراحة، وتأمين اتصال بالانترنت وتأمين بطاقات الهاتف (السيم كارت)، والبحث عن مناطق التصوير المُحتملة، إضافة إلى البحث عن أشخاص من المُحتمل أن تتم مقابلتهم من قبل الصحفيّ/ة. وأخيرًا التفكير بخطة بديلة وأماكن حماية في حال حصول هجوم جويّ أو بريّ على المكان، طبعًا في حال كانت المهمة في مناطق حرب.
أمّا المرحلة الثانية، وهي مرحلة تواجد الصحفيّ/ة، فتكون مهام المُنسّق/ة متمحورة حول تأمين المستلزمات والتسهيلات التي تُنجز المهمة بأسلس طريقة مُمكنة، ووضع خطة عمل عامة للفريق الصحفي، منذ ما قبل تواجدهم حتى وقت رحيلهم.
من مهام المُنسّق/ة أن يعملوا على التواصل والتنسيق مع الأشخاص الذين ستتم مُقابلتهم، وتأمين وسائل والنقل ووسائل الحماية وتأمين معدّات بديلة للتصوير في حال الحاجة، والترجمة الفوريّة الدائمة بين فريق العمل والمسؤولين أو السكّان المحليين. إضافة إلى تأمين سلامة الفريق من الهجمات الحربيّة والعسكريّة إن حصلت، أو تأمين سلامة الفريق من السرقات والنصب والاحتيال في حال حدوث أيّ موقف، وتجهيز خطة احتياطيّة حال فشل الخطة الأصليّة، وأخيرًا تأمين خروج الفريق الصحفي بسلامة من موقع العمل.
كلّ هذا في الحالة المثاليّة، ونحن نعرف أنّ هذه الأمور لا تحدث إلّا نادرًا، وذلك لقلة الاهتمام المادي والمعنوي بالفيكسر، إضافة إلى استغلاله/ا من جهات مختلفة، بما فيها الفريق الصحفي الذي تعاقد معه/ا.
Comentarios