@ رصيف ٢٢
صدفةٌ سعيدة قادتني إلى الاستماع إلى برنامج صوتي (بودكاست) اسمه "دُمْ تَك"، وفي إحدى الحلقات، والتي سُميت بـ"صوت كوردستان"، تحكي مقدّمة البرنامج بلهجتها اللبنانيّة قصة حياة "محمد شيخو" ملك الأغنيّة الكرديّة غير المُتوّج. قادني البرنامج، في عشرين دقيقة، في رحلة سمعيّة، إلى أرجاء كوردستان المختلفة التي عاش فيها محمد شيخو، إضافة إلى لبنان التي عاش ودرس فيها لمدة غير قصيرة. استمعتُ إلى صوته وهو يغني أغنيات وقصائد كرديّة أحفظها عن ظهر قلب، كذلك عرفّني البرنامج على محمد شيخو جديد؛ لم أكن أعرف أنّه قد غنى بالعربيّة من قبل. لقد غنى بالعربيّة بلهجة لبنانيّة، ربما غناها أثناء إقامته هناك.
أثار البرنامج شجوني، ورقرق الدمع في مقلتيّ، فما كنتُ أحلم منذ سنوات قليلة بأن أسمع برنامجًا عربيًا يحكي عنّا، عن الأكراد وموسيقاهم. برنامج عربيّ يقدّمه ويعدّه عربٌ يذيع أغانٍ كرديّة، يا لها من معجزة!
*************
لا أدري سببًا للانفتاح. صرنا نرى متسابقين أكراد في برامج مواهب عربيّة، وصرنا نرى عربًا يغنون بالكرديّة، وصرتُ أنشر نصًا في موقع عربي عنوانه باللغة الكرديّة، أهي الشعوب تقبل بعضها بعضًا؟ أهي الحكومات والطغيان ما فرقنا، ونحن كشعوب منفتحين على بعضنا البعض؟ لماذا إذن يمتلئ العالم بتعليقات عنصريّة وكراهيّة ما زلت أسمعها بأذني حتى اليوم؟
أذكر المرة الأولى التي سمعتُ بها أغنيّة كرديّة على إذاعة سوريّة. كان هذا بعد بدء الثورة السوريّة بثلاث سنوات. حينذاك بثت إذاعة "سوريالي" أغنية "آمان دٍلُو" لمحمد شيخو. أحسستُ بأنّ الثورة قد حققتُ إحدى أمنياتي، وهي سماع أغنية كرديّة على إذاعة سوريّة وأنا المُحب للاستماع إلى الراديو. لم يحدث هذا قط. كانت بداية الثورة نقطة تحوّل في هذا السياق. آه كم كنّا محرومين!
*************
حين كنّا صغارًا، كانت عائلتي تعيش في مدينة القامشلي شمال البلاد، كان التحدّث باللغة الكرديّة ممنوعًا خارج البيت. في مدينة معظم سكانها يتحدثون بالكرديّة لم يكن مسموحًا لنا التحدث بلغتنا. تعلمناها سرّاً في البيوت. تعلمناها شفويًا من آبائنا وأمهاتنا وجدّاتنا وأجدادنا الذين حافظوا على اللغة من الضياع، ومن بعض الكتب التي كنّا نتناقلها سرّاً ونخبئها خلف الكتب العربيّة، فحيازة كتاب كرديّ كانت جريمة يُعاقب عليها المرء في دولة البعث الأسديّة، فيُتهم المرء باقتطاع جزء من أراضي الدولة العربيّة أو بوهن نفسيّة الأمن أو إثارة النعرات الطائفيّة، وتلك كانت التُهم الجاهزة التي يواجه بها الأكراد، لمجرّد أنّهم أكراد.
كان في بيتنا في الحيّ الغربي، في مدينة القامشلي، كتاب مُخبَّأ، فيه القصائد التي غناها محمد شيخو، وعلى الغلاف صورة له. كنّا أطفالًا يتعلمون العربيّة في المدرسة ويُمنعون من تعلّم الكرديّة، وكان الفقر يلبسنا كثوب، فكنّا نتعلم اللغة بجهود أهالينا البسيطة -وهم من تعلموا الكرديّة شفهيًا كذلك بفضل دكتاتوريات مُتلاحقة فتكت بالأكراد، فلا يعرفون قواعد اللغة ولا أُسسها- كنّا نتهجى حروف القصائد وكلمات الأغاني، فنفشل في مطابقتها مع اللحن الذي في رأسنا. نتعذب حتى ننهي قراءة الجملة الأولى، فترك الكتّاب ونغني الأغنية التي نحفظها كما نحفظ أسماءنا.
*************
في إحدى سنوات التسعينات ذهبنا، عائلتنا وعائلات أصدقاء والدي، في رحلة عائليّة إلى منطقة عين ديوار، أبعد نقطة في شمال شرق سوريا، عند المثلث الحدوديّ العراقيّ التركيّ السوريّ. افترشنا الأرض على ضفة نهر دجلة، لنرى طرف كوردستان الآخر ممتدًا على الضفة الأخرى. كنّا صغارًا نلعب كرة القدم ونقلّد الكبار في مشيتنا وطريقة كلامنا.
كان من بين أصدقاء أبي الفنان الكردي كنعان شيخو، وهو أخو محمد شيخو، كان معه الطنبور، فيعزف أغنيات كرديّة، يغنيها معه الباقون أو يرقصون في حلقات.
مثل حلم بعيد يبدو لي المشهد، وهو يغني أغنيّة أخيه الشهيرة "أيتها البيضاء"، والتي تبدأ بما ترجمته: (ذات مرة لمحتُ امرأة بيضاء/ عيونها سوداء لامعة/ دخلت إلى قلبي/ وقد أحببتها كثيرًا).
Carkî min ji xwer dî gewrek
Çavê wê reş û belek
Xwe bera nav dilê min
Min jê hez kirî gelek
كنّا صغارًا ملاعينًا. كنّا نغير كلمات في الأغنيّة فيتغير المعنى. فمثلًا كنّا نبدّل المرأة البيضاء بالحمار، ونغني: (ذات مرة قابلتُ حمارًا/ عيونه واسعة سوداء/ رفسني علي جسدي/ فتوجعت منه كثيرًا). كنّا نضحك ملء أشداقنا، وكأنّنا نملك الأرض والسماء. *************
كان في بيتنا في الشام، مثل كلّ بيوت الأكراد، صورة لمحمد شيخو معلّقة على الحائط. ومثل كلّ بيوت الأكراد كان في بيتنا آلة البغلمة الموسيقيّة. تقول الأسطورة إنّ في كلّ بيت كردي هناك آلة موسيقيّة، قد تكون البغلمة أو الطنبور أو ما يشبههما، وإنّ في كلّ بيت هنالك شخص واحد على الأقل يعزف على هذه الآلة. وفي عائلتنا يعزف اثنين من أعمامي وأخي على البغلمة والطنبور.
لا تمرُّ جولة عزف دون أن تمر أغنية لمحمد شيخو، إن لم نقل أغنيات كثيرة. يحفظ ويتداول ويغني الأكراد أغنيات محمد شيخو إلى اليوم. يُعيد فنانين قد فاقوه شهرة بكثير أغنياته وكأنّ الكرديّ لا يكتمل إلا بصوت محمد شيخو وأغنياته، أغنيات الحب وأغنيات الحياة وأغنيات مقارعة الطغيان والظلم.
تعليقات