@ رصيف 22
يُعدّ فاروق مردم بك، الحاصل على وسام الشرف برتبة فارس، من الجمهوريّة الفرنسيّة، من أشهر المثقفين السوريين، وأهمهم، وهو يقيم في فرنسا منذ سبعينيات القرن الماضي. يشتغل مردم بك في الثقافة العامة، والنشر، والترجمة، والبحث، والتاريخ، وله فيها مؤلفات عديدة، ونشاطات كثيرة.
أردنا في رصيف22، أن نحاور فاروق مردم بك، للحديث عن أشياء أخرى لا يُحكى فيها عادةً، فعلى أهمية ما يقوم به، وما يكتب عنه، في الأدب والثورات والثقافة والنشاط السياسي، لكنّنا أردنا أن نحكي معه عن الهوية، والشعر، والطبخ، وكرة القدم، وهي أمور يحبّها، وتشكّل أشياءً محوريّةً في حياته، حتى أنّه قام بتأليف كتابٍ بديعٍ اسمه "مطبخ زرياب"، يمزج فيه وصفات الطعام بتاريخ أكلات البلاد العربيّة، وتأثيراتها على المطبخ الأوروبي.
استمرّ التحضير لهذا الحوار أسابيع طويلة، وتأجّل مراراً بسبب انشغالات مردم بك الكثيرة. وعن طريق تبادل الرسائل الإلكترونيّة، ومن ثمّ تحريرها، وصلنا إلى صيغة هذا الحوار بشكله النهائي.
أنت مؤلف وناشر ومترجم، وتحبّ الشعر وكرة القدم والطبخ (وهذه نقاط سأعود إليها لاحقاً)، حاصل على وسام الشرف برتبة فارس من الجمهوريّة الفرنسيّة. وفي تعريفات هويتك، أنت سوري وفرنسي وفلسطيني (ربّما بسبب عملك الطويل مع الفلسطينيين ومن أجلهم). بعد هذا كله، كيف تعرّف بنفسك اليوم؟
سبق لي أن أجبت عن أسئلةٍ تُشبه سؤالك، بالقول إنّ الهويّة بوتقةٌ تتداخل فيها عناصر مُختلفة، ويتغلّب فيها عنصر على سواه، حسب أوضاع الفرد في حياته العامّة والخاصّة. نحن، أعني السوريّين، نُعلن أنّنا ننتمي إلى بلدٍ اسمه سوريا، ولكنّ في هويّة كلٍّ منّا انتماءاتٍ أخرى، إثنيّة أو ثقافيّة أو جهويّة أو دينيّة، ظاهرة أو مخفيّة، تطبع بطابعها هويّته السوريّة الجامعة، وقد تتغلّب عليها أحياناً. ونحن نعرف، من جهةٍ ثانية، أنّ المنفيّين واللاجئين والمُهاجرين السوريّين، لا يتعاملون جميعاً على نحوٍ واحد مع البلد الذي يُقيمون فيه؛ فمنهم من يسعى إلى الانصهار في مُجتمعه الجديد، مُنسلخاً عن هُويّته الأصليّة، ومنهم من يندمج فيه بعد بضع سنواتٍ من تغرّبه، مُضيفاً عنصراً آخر إلى هويّته، ومنهم من يرفض ذلك حتّى إذا حصل على جنسيّة الدولة التي يُقيم في ربوعها، ويتأسّى عندما يُدرك أنّ أولاده لن يرثوا هويّته كما هي.
شرحت مراراً أوضاعي الخاصّة التي جعلت منّي مواطناً فرنسيّاً، أتماهى في حياتي اليوميّة مع الفرنسيّين المُتأصّلين في فرنسا، أباً عن جدّ، وأدّعي أنّي أعرف عن تاريخهم وثقافتهم أكثر ممّا يعرفه أكثرهم، ولكنّي أختلف عنهم جوهريّاً في أنّي سوريٌّ وعربيّ قبل كلّ شيء. ويُسعدني أنّ ابنتي وابني اللذين وُلدا في فرنسا، لا يتنكّران لأصلهما السوريّ العربيّ، على الرغم من أنّهما، بطبيعة الحال، يُغلّبان انتماءهما الفرنسيّ، ولا أعرف ما ستكون عليه هويّة أولادهما: ستكون ما سيُقرّرون أن تكون. أحبّ هذه الخاطرة لمحمود درويش في كتابه أثر الفراشة: "الهويّة هي ما نُورّث لا ما نرث، ما نخترع لا ما نتذكّر".
ليس في العالم هويّاتٌ قوميّة صافية تخترق التاريخ، وتبقى على حالها، وليس فيه ثقافةٌ حيّة لم تُهجّن، ومن الطبيعيّ أن تتغيّر سمات المُهاجرين، قليلاً أو كثيراً، بعد استقرارهم، ومن أن تتغيّر أيضاً بعض سمات البلدان التي تستضيفهم. الهويّة الصافية وهمٌ من أوهام العقائد القوميّة ذات "الرسالات الخالدة"، وقد روّج لها اليمين المُتطرّف في أوروبا قبل سنين، مُصعّداً العداء نحو المُهاجرين، وتبنّاها قطّاعٌ واسع من اليمين الذي كان ليبيراليّاً، كما هو الحال في فرنسا، حيث المُزايدات القومجيّة على أشدّها في هذه الأيّام، قبل الانتخابات الرئاسيّة في نيسان/ أبريل القادم. يُقال للمواطنين الفرنسيّين ذوي الأصول الأجنبيّة، والمقصود بهم المسلمون خصوصاً، أنّ المُواطَنة الفرنسيّة لا تقتضي أن يندمجوا في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة الفرنسيّة فحسب، وأن يحترموا دستور البلاد وقوانينها، ولكن عليهم أيضاً أن ينبذوا هويّتهم الثقافيّة القديمة. لست، كما تشهد سيرتي الشخصيّة، من أنصار التقوقع في معزلٍ ثقافيّ باسم التعدّديّة، والحقّ في الاختلاف، إلّا أنّه لا يُقاوَم بالتشدّق بالقيم الجُمهوريّة العلمانيّة، بل بتطبيق أوّل ما تدعو إليه: المساواة بين المُواطنين.
تسألني كيف أُعرّف بنفسي، وأُجيب: كما عرّفتني أنت! أنا سوري وعربي وفرنسي، أحنّ إلى سوريا، وطني الذي حُرمت منه، ولا أشعر بأنّي منفيٌّ في فرنسا، فقد صارت هي أيضاً وطني. ومع ذلك، كثيراً ما يخطر لي بيتٌ مُفرد من الشعر العربي القديم، يُقال إنّ مُسافراً رآهُ منحوتاً على صخرةٍ في البادية: "وكلُّ البلادِ بلادُ الفتى / وليسَ لأرضٍ إليه نَسَبْ".
عندي أسئلة كثيرة عن الأدب والثورات وتاريخك الشخصي، لكنني أعتقد بأنّ لديك الصوت والقوة والمركز لكي تعبّر عن كلّ ما يجول في خاطرك، أو بالأحرى، كي تُوصل صوتك إلى "الجمهور" متى أردت، لكن ما يثيرني في شخصيتك، هو امتلاكك حسّ الدعابة بعد كلّ هذا العمر (تبلغ الآن السابعة والسبعين من العمر). يُقال إنّ المثقفين، كلّما ازدادت ثقافتهم، وتقدّموا في العمر، فقدوا حسّ الدعابة، بينما تتمتع أنت بحسّ دعابةٍ عالٍ، وهذا ما تظهره كتاباتك، وهذا ما يقوله أصدقاؤك وصديقاتك. كيف تحافظ على هذه الروح المرِحة؟
لا أعرف من هم أصدقائي وصديقاتي الذين خدعوك بقولهم إنّي خفيف الدم، ولكنّي لا أشكّ في خفّة دمهم! الأصحّ أن يُقال إنّي أحبّ الحياة، وهي جدٌّ وهزل، وأكثر ما يروقني في الأدب العربيّ القديم، أنّه يُحسن المزج بينهما. كان الأدباء لا يتردّدون في تخصيص كتابٍ بأكمله للسخرية من بعض مُعاصريهم، كالجاحظ مثلاً في البخلاء، وفي التربيع والتدوير، أو كأبي حيّان التوحيدي في أخلاق الوزيرين، ولا تخلو كتبهم الجادّة، لأنّ هدفها تعليم القارئ وتسليته في وقتٍ معاً، من أخبارٍ مُضحكةٍ، وكثيرٌ منها ماجنة. هذا هو السلف الصالح في نظري، وقد أفلح من اقتدى به!
أمّا إذا كنت تقصد القليل الذي أنشره على فيسبوك، فأنا لا أتميّز فيه "بحسّ دعابةٍ عالٍ"، كما تقول. كلّ ما في الأمر أنّي لا أثقل على أصدقائي بهمومي الخاصّة، بل أتحايل عليها بممازحتهم بين الحين والحين، وأتحاشى التفجّع في القضايا العامّة، لأنّي أُفضّل أن أجابه كلّ هذا البؤس الذي نحن فيه، بالفكاهة السوداء... أو بابتسامةٍ حزينة.
كتبت قبل بداية كأس العالم لكرة القدم للرجال، قصيدةً أسميتها "القصيدة الفطبوليّة"، أهديتها إلى صديقك زياد ماجد، مطلعها: "سألتُك أنتَ العارفُ المتمرّس/ هل الكأس للألمان حقٌ مكرَّسُ". وهي للحق قصيدة بديعة، فيها الكثير من اللغة الجميلة السلسة فضلاً عن السخريّة، وحسّ الدعابة اللذين يغلّفانها. كيف خطر لك أن تكتبها؟ واحكِ لنا قليلاً عن علاقتك بالشِعر، وكرة القدم.
علاقتي بالشعر قديمة جدّاً. قرأت بشغفٍ منذ صغري عشرات الدواوين الشعريّة، واحتفظت طويلاً في ذاكرتي بمئات الأبيات، من الجاهليّة حتّى أواخر العصر العبّاسي، ثمّ من القرن العشرين بمدارسه المُختلفة، حتّى أحدثها. كنت أعتقد أنّي شاعر، فنشرت ما كنت أعتقد أنّه شعر في الصحف والمجلّات، وهذا منذ 1961، وأنا لم أحصل بعد على الشهادة الثانويّة. إلّا أنّي قرّرت في يومٍ من أيّام 1966، عندما شعرت بعجزي عن كتابة الشعر الذي أطمح إليه، والذي يستحقّ أن يقرأه الناس، أن أكفّ عن التشبّه بالشعراء، وأن أكتفي بقراءة شعرهم. أنا حتّى اليوم قارئ نهم للشعر، أتذوّقه باللغتين العربيّة والفرنسيّة، وقد أتاحت لي الترجمات إلى الفرنسيّة، فرصة الاطّلاع إلى حدٍّ ما على أعمال كبار الشعراء في العالم، قديماً وحديثاً، وشُغفت خصوصاً ببعض المُعاصرين، وأُحبّ وأنا أقرأ شعرهم المُترجَم أن أستمع إليه بلغته الأصليّة، وقد سُجّل كثيرٌ منه بصوتهم، أو بصوت ممثلين قديرين.
أتسلّى أحياناً بكتابة قصائد عموديّة من النوع الذي يُطلَق عليه اسم الشعر الحلمنتيشي، ويُفترض فيه تصنّع الفصاحة بغرض السخرية، ويغلب عليه في مصر، لا في سوريا، مزج الفصحى بالعاميّة. تدرّبت عليه في دمشق، مُقلّداً ما كان يُنشر مخطوطاً في جريدة " الكلب"، بقلم صدقي إسماعيل، وغيره من الأدباء الظرفاء، وما كان يُردّد في المقاهي من الأشعار العروضيّة الساخرة التي كان يكتبها حسيب كيّالي، وعبد السلام العُجيلي. وفي باريس، بعد أن عزفت عن كتابة الشعر، لم يبقَ لي من صلةٍ بما كنت أقترفه في شبابي الأوّل، إلّا هذا اللون من النظم الموزون المُقفّى، فتعاطيته في بعض المناسبات، واحتفظت به لنفسي، إلى أن أنعم علينا مارك زوكربرغ بالفيسبوك، وهو مثل ساحة الملوك كما وصفها الأصمعي، في معرض كلامه على شعر أبي العتاهية، "يقع فيها الجوهر والذهب، والتراب والخزف والنوى". قصائدي من خزف!
أمّا كرة القدم، فحكايتي معها أنيّ كنت أتابع مُبارياتها بشغفٍ على الراديو، حين كنت في المدرسة الثانويّة، ولم يكن التلفزيون يتصدّر بعدُ غرف الجلوس في سوريا، ولكنّي كنت من هواة كرة السلّة، ومن أنصار فريق نادي الفتيان، ولا تفوتني مُباراةٌ تُقام في دمشق. تحوّلتُ في فرنسا إلى عشق الفوتبول، ولكنْ شاءت الظروف ألا أشاهد على التلفزيون الفرنسي مباريات مونديال 1966، فتابعتها على الراديو أيضاً، وأغضبني العدوان الغاشم على بيليه، وزعبرة الإمبرياليّة البريطانيّة في التنظيم والتحكيم! ولذلك اتّخذت قراراً حاسماً بنصرة البرازيل في الآتي من الأيّام. لم يخبْ أملي في مونديال 1970 -ويا له من مونديال!- فبقيت برازيليّ الهوى، على الرغم من إعجابي غير المحدود بالهولنديّين، طوال السبعينيات، وبالفرنسيّين في الثمانينيات، ولم أستسلم في ما بعد لإغراء الألمان، أو الطليان، أو الإسبان، مع ميلٍ عاطفيّ إلى ديوك فرنسا، بسبب الخبز والملح والنبيذ. ومن حسن حظّي أنّي عاصرت طوال خمسين سنة، التطوّرات العالميّة في تكتيك اللعب، وكذلك سلسلةً ذهبيّةً لم تنقطع من اللاعبين السحرة، أُغرمت من بينهم خصوصاً بمارادونا، حين كان في نابولي، وبرونالدينيو حيثما حطّت به قدماه. وفي هذه الأثناء لم أتحمّس لنادٍ من الأندية الأوروبيّة الكُبرى، بل لفريقٍ، ثمّ لفريقٍ آخر، ثمّ لغيره، مهما كان اسم النادي الذي ينتمي إليه، وهذا في نظر أصدقائي من عشّاق الفوتبول، وهم أعلم منّي وأفهم، خطيئةٌ لا تُغتفر! ومن خطاياي الأُخرى، على ما يبدو، أنّي في السنوات العشر الأخيرة أحببت في الوقت نفسه رونالدو وميسّي...
قمت بتأليف كتابٍ بديع اسمه "مطبخ زرياب"، يمزج وصفات الطعام بتاريخ أكلات البلاد العربيّة، وتأثيراتها على المطبخ الأوروبي. ويُقال إنّك طاهٍ مُميّز. ربّما كانت زياراتك المتكرّرة إلى مصر وتونس، سبباً في توسيع قائمة طعامك الذي تصنع. هلّا حكيت لنا عن علاقتك بالطبخ، وما الذي يميّزه عن غيره من الأفعال البشريّة؟ وما هي علاقة الثقافة (أو علاقة مثقّف مثلك) بالطبخ والطعام؟
لم تكن الكتابة عن الطعام في حسباني قبل 1992، حين استقرّ الرأي في معهد العالم العربي في باريس، على أن تُخصَّص له زاوية في مجلّة قنطرة، التي بدأ المعهد بإصدارها باللغة الفرنسيّة في غضون السنة السابقة. ولم يكن أحدٌ من المسؤولين يتصوّر أنّي سأتنطّع لهذه المهمّة، وبقي اسم كاتب المقالات مجهولاً حتّى 1998، لأنّي كنت أوقّعها (بغرورٍ لم يُعرف عنّي!) باسمٍ مُستعار، هو زرياب، تيمّناً بالموسيقي البغدادي الكبير، أبو الحسن عليّ بن نافع، الذي هاجر إلى الأندلس في سنة 822، ونُسبت إليه في ما بعد رهافة البلاط الأمويّ في مُختلف مظاهر الحياة اليوميّة، ومنها آداب المائدة. جمعت هذه المقالات في كتابٍ صدر في 1998، ولقي بعض النجاح في فرنسا، وتُرجم سريعاً إلى الإيطاليّة والإنكليزيّة والإسبانيّة، وبعد عشرين سنةً إلى العربيّة. وفي مُوازاة هذه المقالات، كتبت بالاشتراك مع صديقٍ فرنسيّ نصّاً أسميناه من باب المزاح الجامع في الحمّص، قصدنا فيه أن نُبيّن أنّ لأبسط الأشياء تاريخاً اجتماعيّاً وثقافيّاً حافلاً، وقد تُرجم أيضاً إلى الإسبانيّة والإيطاليّة، وسيصدر قريباً باللغة العربيّة. هكذا بدأت مُغامراتي في هذا الميدان، وربّما كان ما دفعني إليها، غير الظرف الخاصّ الذي ذكرته، هو نهمي أوّلاً (سبق لي أن قلت إنّي لا أعرف أحداً كتب عن الطعام، ولم يكن "يُحبّ بطنه"!)، واهتمامي القديم، ثانياً، بتاريخ الحياة اليوميّة في العالم العربيّ، وإعداد الطعام أهم مشاغلها، حتّى أنّه يُمكن أن نُعرّف الإنسان بأنّه حيوان طابخ...
علاقة الثقافة بالطبخ، أو لنقلْ بتاريخه، أعمق ممّا يُظنّ، لأنّه يُحيل إلى تكيّف البشر مع شروطهم الطبيعيّة، وإلى عملهم على تدجين النبات والحيوان، وإلى الريّ والأوضاع الاجتماعيّة في الأرياف والمدن، والتطوّر التقني، والتبادل التجاري، وإلى المُحرّمات الدينيّة، والنظريّات الطبيّة عن الأخلاط والأمزجة، وما نتج عن هذا كلّه من أساطير وتقاليد. ومن المعروف أنّ مؤرّخين مرموقين في أوروبا والولايات المُتّحدة، كتبوا ويكتبون أبحاثاً رصينةً في تاريخ الطعام، منذ البابليّين والفراعنة، تُرجم بعضها إلى العربيّة، وقد سنحت لي في فرنسا فرصة التعرّف إلى حلقات جامعيّة تُعنى به، ولكنّ الجامعيّين والباحثين في بلادنا قلّما كرّسوا له ما يستحقّ من عنايةٍ، على الرغم من أنّ العرب كانوا سبّاقين في تأليف كتب الطبيخ في العصر الوسيط. ذكر ابن النديم الذي عاش في القرن العاشر، في كتاب الفهرست، ما يقرب من عشرين مخطوطةً عنه، ضاع أكثرها مع الأسف الشديد، إلّا أنّ ما أُلّف بعدها في المشرق والأندلس، حتّى أواخر القرن الرابع عشر، يتضمّن في اعتقادي كلّ وصفاتها. أعتقد أيضاً أنّ هذه الوصفات، وما أضافه إليها الطهاة منذ عصر ابن النديم، من البراهين التي لا تُردّ عن التلاقح بين شعوب العالم الإسلاميّ آنذاك، وكذلك عن صلاتهم بغيرهم من الشعوب.
لا تسلني عن هُويّتها القوميّة!
تحبّ الباذنجان حباً لا يُخفى، وأنا لا آكله، حتى إنّ جسمي قد أنشأ ردّة فعلٍ عليه، فصرتُ أُصاب بحساسيّةٍ جلديّةٍ كلّما أكلتُه، وقد حدث هذا في مراتٍ ثلاث أكلت فيها هذا "الشيء". أخبرني ما الذي أفتقده في عدم أكلي الباذنجان؟ ولماذا كلّ هذا الحبّ؟
ينقسم البشر إلى فسطاطين، حسب مشاعر الحبّ أو الكراهية الني يُكنّونها للباذنجان:
أنت من فسطاط الأعرابي الذي سُئل: ما تقول في الباذنجان؟ قال: لونه لون بطون العقارب، وأذنابه كأذناب المحاجم، وطعمه طعم الزقّوم. فقيل له: إنّه يُحشى باللحم، ويُقلى بالزيت، فيكون طيّباً. فقال: لو حُشي بالتّقوى، وقُلي بالمغفرة، وطبخته الحورُ العين، وحملته الملائكة، ما كان إلّا بغيضي. ولا أُخفي عنك أنّ بعض الأوروبيّين لم يستسيغوا مثلك هذا "الشيء"، عندما تعرّفوا إليه، فمُنع في إنكلترا في القرن السادس عشر، ولكنْ، متى كان الإنكليز يعرفون كوعهم من بوعهم في شؤون الطبيخ؟!
وأمّا أنا، فمن فسطاط الخليفة الواثق بالله الذي كان منذ يفاعته يُحبّ الباذنجان، ويُكثر من أكله، على الرغم من ادّعاء الأطبّاء بأنّه يولّد الدم الأسود، ويُسبّب الرمد، فبعث إليه أبوه المُعتصم رسولاً، وقال له: دعْ أكل الباذنجان، واحفظْ بصرك، فمتى رأيت خليفةً أعمى؟ فقال الواثق للرسول: قلْ لأمير المؤمنين أنّي تصدّقت بعينيّ على الباذنجان!
وقد ثبت لي من مُخالطة الناس، أنّ الخليفة المأمون الذي كان يستدلّ على عقل الرجل بحبّه الباذنجان، لم يُخطئ، إلّا في حالاتٍ نادرة قد تكون منها حالتك، أو لا تكون. ومهما يكن الأمر، فالقول الفصل أوّلاً وآخراً لسيّدنا محمّد، الذي نُسب إليه أنّه قال عن الباذنجان: من أكله على أنّه داءٌ كان داءً، ومن أكله على أنّه دواءٌ كان دواءً. فيا عزيزي دلير، إذا ما وقعت على صحنٍ من مُصقّعة الباذنجان، صحّحْ نيّتك، وستجده طيّباً، فإنّما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى!
Comentarios