top of page
صورة الكاتبDellair Youssef

حوار مع مارسيل خليفة

@ بدنا حل 2010


أُجري هذا الحوار في دمشق، ونُشر في العام 2010. أُجري اللقاء بالتعاون مع الصديقة علياء سعيد.


مارسيل خليفة، يتحدث إلينا بصوته المنخفض الهادئ، الذي يبعث في النفس الراحة، يقول كلاماًً مليئاً بالفكر والثقافة، صعبٌ التعامل مع هذا الكلام.


مارسيل خليفة، اسمٌ جُبِلَ من المتاعب، حورب في زمنٍ من الأزمنة، مُنع في الكثير من الأمكنة، لكنّه ظلّ معلقاً بذاكرة جيل كامل، أُدخل إلى قاعات المحاكم، لكن خرج من الأرض شجرة أرز شامخة في أرض قلوبنا، ماذا نقول عن رجل صنع تاريخاً بنفسه، وكيف نقدم لحوار معه؟ مارسيل تفضل وتكلم:


ماذا عليّ أن أقول؟ وعيناي تسرحان بين الكلمات على حوافي الجرح، وصفحات قصب الوجع تنبت نايات ساكتة على بحة مقام، الكلمات تقفز الواحدة بعد الواحدة لترتمي بأفياء الهدب، حيث رائحة حبق وعتب ورد وتراب. لم أنتظر قطعة سكر أو ثمرة أول موسم أو خبزة صاج ساخنة تحرق ولا تخفف الجوع. إنني أحاول أن أصفو من خلال صمتي أمام صفحة بيضاء مسطرة، أدوزن العلامات الموسيقية، لن يكون بوحي شجياً ولن يكون بارعاً، في صمت مفعم بالحب وفي انعدام الوساطة بين الإحساس والنوتة أكتب حروفاً بلا تشكيل بلا قواعد ربما كتابة على الحياة مباشرة، إن صمتي يئن من صمته ويتهدج تحت ثقل المخطوطة أحترف البكاء اللا مرئي وأدس حرقته في الدعابة، كم من سؤال مرّ بي فأجلته لخجل في العيون. لا معنى يشبعني إلا ما تبعثه الموسيقى ولا مبنى يغويني إلا ما تشيده الموسيقى أحاول جاهداً أن أجد مقعداً للحنين على وقع الموسيقى في مساء لا يطيب لي إلاّ ما يملؤه شجن الروح لأعيد دهشتي الأولى من جديد ولأرحل مع الطيور العاصية إلى أفق بعيد غامض أحبه دائماً غامضاً في الأقاصي الزاخرة لاستبدال فوضى العالم بالإيقاع. هل ما كتبته وما سأكتبه هو بمثابة الشك في قمر الحب الذي يغمر ليلنا الدامس بالفضة الصريحة؟ أدافع عن صمتي ولا أملك دفاعاً غير النوتات التي ولدت من صخرة الجبل متميزة برهافة عصفور. منذ طفولتي لم تكن لديّ رغبة في معرفة المستقبل بالوضوح الحديدي إنه وضوح يضاهي قيداً لا يرحم.


ليست لديّ معجزات لديّ مخيلة وأحلام مكبوتة في كل يوم أستأنف الرحيل الشاق نحو البحث عن نقطة ضوء لبداية تتجدد لارتماء طفولي في حضن دافئ لاحتجاج على فساد أشياء العالم ولتورط صاخب في الحب تلك الوردة السرية الجميلة المخبئة في دواخلنا تمدنا دائماً بالقوة وتفسد على الحياة استسلامها، رغبة مشتركة ومتأججة في إشعال شمعة ولعن الظلام في آن لاستعادة الثقة في الروح تلك الثقة التي أرهقتها الانهيارات الشاملة. سأظل أحاول أن لا أهدأ في مكان ولا في قالب ولا في حالة وأبحث عن شمس حارقة حتى لو ذابت في أفق بعيد وأن أقترب من ذلك السراب وأعاود البحث وأن لا أطمئن ولا أستقر وأن أفتش دائماً عن نهار جديد وكأنه نهار أخير وأن أعشق المغامرة والتحولات وأن أغوص عميقاً في التجارب وأن أتعلم كل يوم كيف أحب وكيف أشتاق وكيف أبكي وكيف أضحك وكيف أتخيل وكيف أكتب الموسيقى وأن لا أشعر بالزمن الفيزيائي الذي يتلاشى في الجسد وأن أظل أسعى إلى إنسانية راقية وأن أتحرر من اليقين سبيل للانتقال من المجهول إلى المعلوم، الجو خانق أريد قليلاً من الأوكسجين لأكتشف غموض الآفاق لأجترح المستقبل. انتصفت قنينة العرق، العود مثل امرأة عطشى على فخذي كالاستسلام الأول، نط اللحن من الوتر أشعر برغبة في الصمت، أشعر برغبة في اللعب، اشعر برغبة في الغناء!!!!!


لقد غنيت لكثير من الشعراء غير محمود درويش، لكنك لم ترتبط إلا به، ما الذي يعنيه لك محمود درويش؟


ما زال صدى تلك الأيام العابرة مع صديقي محمود درويش يحلّق بي على غيمة بيضاء في بيروت، في القاهرة، في باريس، في دمشق، في الجزائر، في تونس، في الرباط، في عمان، في نيويورك، وفي الطريق إلى القدس. في الزهرة الطالعة من جرح الصخرة، في الجلسة، في السهرة، في ليلة رأس السنة، في الفندق، في المطعم، في المقهى، في الساحة، في القطار، في الباخرة, في الطائرة، في الباص، في السيارة، في كل شيء، كل شيء، كل شيء.

أتنهد من أعماقي والأرض تتسع وتدور وأدور معها كغريب بدونك يا محمود، كم مرة قطعناها سوية كطير الحمام في يومين، نتبادل الحنين الذي لا يفسر من خلال دمع الغيب، نشربه حتى الثمالة، ما أجملك وأنت تعلو بالشعر وبالحب ولا تستكين وليس لك إلاّ الريح تسكنها، تدمنها، تتنفسها، أتذكر عودتنا ذات مساء من جنوب الجنوب، تقاسمنا الطريق وقطيع الماعز الذاهب إلى حظيرته يخفي ثغاءً مبحوحاً من فرط وطأة المساء وكانت الطريق مفتوحة على القرى الممتدة، قلت لي يومها: ما أجمل هذه البلاد وهؤلاء الناس الطيبين يحلمون بصياغة الحياة ولا يتوبون عن أحلامهم، يعشقون ولا يأبهون من خسارة غدهم، أعلن انتمائي إلى جهاتهم. أتذكر حفلة باريس الأخيرة على مقعد الحنين تستمع إلى التقاسيم وتعاليم حورية وكنت كالقمر المتلألئ في


سمائك، في قلقك المتوّج بقوس قزح وفي الغيمة التي أينعت في عشب روحك، أنظر نحوك، أمشي باتجاهك، أطير إليك، ألمك من وحدتك في مساء بعيد ونكمل ليلنا في ساحة التروكاديرو، أشتهي بريق حضورك لأستعيد الدهشة الأولى، أحن إلى صداقة تأخذ عذوبة الحب، أحس بالمطر يخترق أعماقي. هل تكون هذه الكلمات أصواتاً أستعيدها من زخات المطر التي بللتنا ذات مساء؟ كيف تتحرّك الأمكنة والناس والأشياء والزمن؟ هل هذا هو ضوء الحياة أو هل هذه هي النار المشتعلة؟ أو هل هذا هو الحب؟ أو هل هذا هو الوهم الذي صار حياةً، أرضاً، كواكب، نجوماً؟ أو هل هي رغبة في الولادة، العزلة، التذكر؟ نسيانٌ حلّ فينا وتجسدّنا، لنبحث عن حب كثير في فضاء واسعٍ، وسع الأبد.


هل هذا التذكر والتخيل وهذه الكلمات تبني حياة نكون فيها لا قبالتها؟ نسترد غبار الدروب الأولى الذي علق بأقدامنا ولشكل الحياة التي امتزجت بنسيم خفيف تحوّل ريحاً يحوم كالطير على أرض مدورة يداعبها بغبار النجوم. يملأ نهاراتها بنور الكواكب من ملايين السنين الضوئية في فضاء هائل، ليصل إلينا، ليحيا فينا، وليأخذنا في تمرين يومي إلى الدخول في مكمن الحياة السري. نداء يحتضن صرخة مبللة بالملح وأرض تترعرع في القمح، لا نتوحد مع الكون بل يتوحد الكون فينا، وبهذا الليل الحاني يقودني حلمي إليك وأهرب من نعاسي لأدوس على عشب السماء كي أصل إليك، أشهد بأن صداقتك عششت في كياني. أذرف دمع الكلام وأناجيك كلما نهدت في منامي يخفق قلبي، أحس بطعم الغياب ويغمرني نورك، أناديك لحناً همساً حباً حلماً، فهل تسمعني؟ كم ضاق هذا العالم برحيلك. كنت أنيقاً كعصفور طليق، وحيداً كغيمة شاردة، غزيراً كنهر هادر لا ينضب صاخباً كموجة لا تتعب من حراكها الأبدي، أتساءل من أين أتيت، ولكن لا أحد في إمكانه أن يسأل الموجة من أين أتيت؟


انتقلت من الغناء إلى الموسيقى، هل ترى بأن هذا ناتج عن بدء الجمهور العربي التفاعل مع الموسيقى بعيداً عن الكلام، أم هو نتاج تجربة شخصية؟


الثقافة الموسيقية ضعيفة جداً بل مفقودة فعلياً، من المهم إيقاظ وعي الناس، كيف تمت كتابة المقطوعة وما الذي ألهم المؤلف في كتابتها؟ لماذا يحتوي الصوت على كل هذه العاطفة؟ كيف نستمع؟ الموسيقى هي الأقل معرفة من قبل الناس. في الثقافة العامة يهتم الإنسان المثقف بالفلسفة والأدب ويعرف الكثير في السينما والرسم والنحت والمسرح ولكنه قد لا يعرف شيئاً عن الموسيقى. هناك نوع من الجهل المتعلق بالموسيقى ولهذا نرى مستمعون محافظون للغاية لا يريدون موسيقى جديدة، يريدون فقط ما علق في ذهنهم من قوالب الماضي أكثر مما يريدون الجديد. قليلٌ من الناس الذين يعرفون الموسيقى وقد جعلوها جزءاً من حياتهم. علينا أن نخلق سبلاً للاستماع وجعل الموسيقى سهلة المنال.


بالنسبة لي لم ارغب أبداً في أن يكون لي أتباع في العزف والغناء والتدريب والكتابة، فيما هناك أشخاص يطمحون جداً لتربية أتباع لهم، أحب أن يعلن الشخص عن استقلاليته وأن يسلك طريقه الخاص، مثال على ذلك بشار ورامي. لا أحب طريقة محددة حتى لو كنت من استنبطها. تمارين ومقطوعات كثيرة كتبتها وطبعتها للآلات الموسيقية العربية لطلاب المعاهد الموسيقية حاولت جاهداً أن أوقظ فضول الطلاب وأن أعطي الوسيلة التي تساعد على تطوير الفضول. لم أحب العزف الميكانيكي ولا أحب الذي يعزف المدون بشكل مثالي وبدون أي نوع من الذاتية، أكتب متحرراً من كل شيء، وعندما يصبح لديك ما تقوله حقيقة، سوف تثير بالتأكيد الإعجاب لدى البعض والرفض لدى البعض الآخر.


في أغلب المقطوعات الموسيقية التي قمت بتأليفها مثل جدل ومداعبة وغيرها كنّا نجد تشابهاً في الموسيقى الأصلية، والاختلاف كان في الآلات والتوزيع، أي كنت تعتمد على القدود الحلبية والموشحات الأندلسية بشكل كبير، لماذا لم تحاول التجديد، أو تأليف موسيقى جديدة؟


الخارق في الموسيقى هو عدم إمكانية تكرارها، الصوت سريع الزوال، يمر ولا تستطيع أن تستعيده عندما تشاء، ليس كاللوحة تراها والكتاب تفتحه، تختلف الموسيقى عن الكلمة المكتوبة لأن الموسيقى تولد فقط عندما يتم إصدار الصوت، الموسيقى موجودة في مخيلة المؤلف تابعة لقانون الفيزياء، يتخيلها المؤلف في عقله يستخدم التدوين الموسيقي بتلك النقاط السوداء على ورقة النوتة البيضاء المسطرة وتولد الموسيقى فقط عندما تعزف، لا يمكن تكرار الأداء بأي شكل من الأشكال حتى لو تم تسجيله على شريط سيكون مختلفاً، ولا يكون الشيء ذاته، وعندما نكرر المقطوعة في كل مرة يكون الأداء مختلفاً، عندما تنتهي المقطوعة يختفي الصوت، من الناحية الفيزيائية تختفي، تنتهي، ولكن سيُمكننا أن نستعيد الصوت بإعادة العزف ولكن لن تكون هي ذاتها، لن يكون الصوت ذاته، سيكون النهر ذاته بمياه مختلفة، وهذا ما يعطي الموسيقى ذلك الإحساس بالأزلية، إنه فن الوهم، عامل خلق الوهم بالموسيقى والصوت.

إذا نظرنا إلى أوركسترا تحتل خشبة المسرح لا نستطيع إعطاء اسم لأي من وجوه العازفين على الرغم من أن الجميع يستحق التقدير والإعجاب بنفس الدرجة كما كل العازفين البارعين الذين فضلوا المجد الفردي على الذوبان الرائع في الأوركسترا. العازفون يرسمون بآلاتهم الموسيقية الألوان المحددة من المؤلف، الأوركسترا لوحة تتضمن كل ما يؤلف اللوحة من خليط الألوان ومن ريشة الفنان ومن ذلك الانفعال الذي يولد التفاصيل. هناك نوع من الجمود وانعدام الحياة في ما يوجد على الورق ولكن العازف يقرأ النص والنص يصبح مستقلاً عن المؤلف، وكي يعزف النص يجب استيعاب العملية التي أدت إلى وجود هذه النوتات على الورق. هي مرتبطة بسلسلة من الأحاسيس الغريزية وبسلسلة من التخمينات في الأسلوب وفي إعادة إنتاج الصوت بحيث يجذب الانتباه بالجديد وإعطاء دفعاً أو شكلاً جديداً في كل مرة تعزف المقطوعة.


كيف يرى مارسيل خليفة الموسيقى العربية؟


صار للموسيقى العربية الآن أن تحتفي بالمنحى التعبيري الذي تجتازه، لم تعد الصورة ولا الإيقاع ولا الجملة ولا الأدوات ذاتها. الأمور تجري كما يحلو، لم تعد لدينا رغبة في معرفة مستقبلنا بالوضوح الحديدي الذي تسلّح به المحافظون، إنه وضوح يضاهي قيداً لا يرحم. وليكن من حق الآخرين، المحافظين أن يسمّوا هذا خراباً، فربما حلّى لنا ذلك أيضاً، وهكذا عندما


أصدرت اسطوانتي الأولى قالوا بأنني أخرّب الموسيقى العربية ولم يكن أحد يملك حق منعي عن ذلك، لا يجوز أن نتوقف أمام الاعتراضات الهستيرية التي تنتاب بعضهم وهم ينظرون إلى المشهد الموسيقي يشطح خارجاً عن صورته القديمة بما لا يقاس من التنوّع، لا يملك أحد سلطة مصادرة وليس عندنا وقت أن نشتغل بمهمة إقناع أولئك بأن ما يحدث هو من طبيعة الأشياء. إنها حريتنا الأخيرة بعد مصادرة كل شيء بلا استثناء، ليست لدينا معجزات لدينا مخيلة وأحلام مكبوتة. الأسلاف صاغوا حياتهم وطريقة عملهم كما يحبون ويستريحون وكل ذلك حقهم وينبغي الآن من المبعوثين أن يكفوا عن محاولة إثارة الضجيج حول ما كانوا أنجزه الأسلاف. لماذا كل هذا الضجيج لتكريس الجذور والسكوت عن حرية الأجنحة؟

ليس أمام التجارب الجديدة إلاّ أن تذهب إلى حدّها الأقصى بموهبة وبمعرفة. الإبداع توغل في غموض ما لا يعرف. فالمعروف هو ما تمّ اكتشافه وصار ناجزاً ومستقراً، وشرط نجاح التجارب الجديدة هو خروجها الواعي على الماضي. ففي عدم نسخ السابقين هو تكريم لهم، تجارب تخرج على الطوق والطريقة معاً، تصدر من الحياة الأكثر تأججاً واتصالاً بالمستقبل.

هناك الكثير من النقاد، كثير من الناس انتقدوك، كيف ترى ذلك؟


أعتقد بأن النقد الصحيح هو جزء من الجمهور. الناقد الموسيقي الذي يضع نفسه في مكان المستمع يستطيع تقنياً تحديد مصدر رأيه متسلحاً بالتجربة المقارنة التي كونها على إثر عمليات سماع متتابعة هذا إذا أعتمد على علم الموسيقى ومحصن أكاديمياً. إضافة إلى ذلك إن الناقد عليه في نفس الوقت أن يحمل في شخصيته شخصية الفنان مؤلفاً كان أم مؤدياً، فهو يضع رجلاً في كل جهة، أما معطياته تكون مرتبطة بين الأسباب والنتائج فهي تحفظ الزائد في اتجاه وتوقفه في الاتجاه الآخر. حتى لو تلعثمت كلماته، إن الناقد يستطيع المحافظة على الوزن والقيمة إذ كانت الحجج التي يقدمها تملك هذا الوزن.


عندما يقدم تقريراً عن حفل يرتدي الصحافي بزة الحاكم العام، يطرح اتهامات أحياناً. يخلي الحاكم العام المكان للمحامي، بالطبع إن أداء أو تأليف عمل لا يمكن أن يرضي كل الناس. إن الناقد الموسيقي لا يترك أي تفصيل يمكن أن يثير الانتباه فهو عند وضع تقرير عن حفل موسيقي يلجأ إلى وصف الأوركسترا مفصلاً كل عازف على حدة مشيراً إلى قيمة عازفين معينين موجهاً ملامة إلى البعض الآخر. عند قراءة نقد فني جدّي عن عازف نستنتج ان النص يضيء لعب المؤدي، فهو يحدد إحساس مخيلة المستمع لأنك ربما استطعت إدراك كل ما أرادت مخيلة ذلك العازف الشاعرية إيصاله لك، تتعلّم على سبيل المثال كيف أن ذلك العازف يتعاطى مع الموضوع. هذا يؤكد جدية العلاقة، يدعم قناعتك ويشرًع لانطباعك. العازف يوصل إليك إحساساً والناقد الموسيقي يشرح لك صحة هذا الإحساس وهنا ينفذ الناقد مهمته ويظهر عن إفادته. إن الكتابات النقدية هي حتماً مقروءة بغثها وثمينها وإلاّ كانت غابت عن الصحف، إن الناقد الصحيح عليه معرفة تحديد مكامن الأشياء التي تعطي القيمة الحقيقية لحفل ما، لعمل موسيقي ما، أو الأشياء التي تقلل من تلك القيمة، عندما يبدأ أحد النقاد بتوجيه ضربات إلى الموسيقيين فهم يعرفون تماماً إذا كان مخطئاً أم لا. لا أعتقد بأن العدوانية تشكل الطريقة الأحسن في إقناع الموسيقيين بأنهم قصروا في مهمتهم. إن الاتهام يساهم في رص صفوف الموسيقيين الحقيقيين الذين يدفعون الناقد إلى قفصه وحيداً، بالقرب من النقاد وأحياناً مختلطين في صفوفهم يوجد المعلقين العالمين بالموسيقى والمحللين، ينغمسون سلاحاً وعدّة في الغابات المظلمة للمغامرة التحليلية، للأسف إن أدوات لغتهم تنغلق عليهم وبالتالي لا تستطيع اللحاق بهم إلاّ برادار الحدس.


مارسيل خليفة بعد أن وصل إلى العالمية، إلى أين يريد المتابعة؟


أحاول كل يوم أن أجدد قدرتي من خلال أعمال أنقلها دوماً إلى الناس عبر الاسطوانات والحفلات في مسارح العالم، الموسيقى هويتي الوجودية والإنسانية وحملّتني في نفس الوقت مسؤوليات كبيرة أعيشها برحابة صدر وبمعاني إنسانية وبجماليات نادرة، أحب عزلتي عن الجو المأزوم في التلفزيونات والإذاعات والفضائيات والمجلات والمقاهي والساحات عزلة أصونها من مشاغبات خارجية وأقلب المدن صفحة صفحة، وأصغي إلى نفسي وإلى العالم بطريقة أكثر صفاء وأنتبه إلى عملي وأقيم في صمتي لأكتب، الموسيقى بحاجة إلى كثير من الوقت، أحلم، أعالج شقاء الحياة بالكتابة، الحياة ساحرة مدهشة، في الموسيقى يتحوّل الأسى إلى عصفور والغضب إلى بسمة والقبح إلى وردة في ارتقاء بهيج بجوهر الحياة.

كلمة أخيرة.


عندما كنت صغيراً لم أدرك بأن الكبار كانوا صغاراً مثلنا ذات يوم كنت أعتقد بأنهم خلقوا كباراً ولم يكن لهم طفولة ذات يوم. كانوا يوهموننا بأنهم يعرفون كل شيء يسرقون منا طفولتنا المنذورة للرحيل المبكر لندخل في عالمهم المفضي إلى العدم، لماذا يدفعوننا لنخسر طفولتنا ونقحم في عالم لا نفهمه ولا نفقه كنهه ولا سره؟ كنّا أطفالاً منذورين للعب والضحك والمطر والشمس وكانت الأرض تهرب من تحت أقدامنا كالرياح العاتية تقصف في دربها كل شيء، كنّا كالسيل العارم نجرف بدربنا معالم الحقول والهضاب ونرميها في تلك الوديان السحيقة وكان يأخذنا الدهش من كل شيء نجلس على أكوام القش في الحقول نراقب العصافير تحوم على الحبوب المنثورة فتختلط رائحتنا برائحة الزعتر والنعناع وفي الليل كانت أجسادنا تغتسل بضوء القمر الفضي على إيقاع البحر ونظامه حيث كنا نغافل أهلنا المشغولين ونسرح مع الصيادين في ليل أعمى لا نرى شيء ولكنه كان ينتعش بالسهيرة وكانت الأمواج الصغيرة تحملنا وتلفنا بالزبد ولم نكن نتوب عن ركوب الأمواج، كنّا نتحين الفرص لنسابق الزمن. الزمن قاسي، يراقبنا ويداهمنا، نستعجله وهو يتباطأ كي لا نراه، إلى أن غافلنا وبدأنا نستمهله وهو يجد السير بنا.

١٦ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


bottom of page