ترتدي ثوباً طويلاً. تمسك منديلاً بيدها. تغني بثقلٍ ورزانة. لا حركات مصطنعة ولا رقص ولا قفز على المسرح. هذه هي صورة أم كلثوم التي عرفناها منذ كنّا صغاراً وبقيت هكذا في أذهاننا، أو على الأقل بقيتُ أتصورها بهذا الشكل حتى اليوم الذي نشرت فيه جريدة الحياة مقالة للكاتب إبراهيم العريس بعنوان: “«الأطلال» لإبراهيم ناجي: الحكاية الخلفية لأغنية الأغنيات”. يومها بحثت في موقع يوتيوب عن أغنية الأغنيات وأردت مشاهدة أم كلثوم تغني أطلالها على المسرح وأمام الجمهور الذي يحبها.
سياسياً أعتبر أم كلثوم مغنية سلاطين وملوك ورؤساء ولا أحب هذا فيها، مثلها مثل كثير من الفنانين الذين عبدوا الملك فاروق ومن بعده جمال عبد الناصر. محمد عبد الوهاب مثال آخر على ذلك. لكن وبالطبع موسيقياً هما من أعظم ما أنتجته الثقافة العربية.
شيءٌ آخر لا أحبه في أم كلثوم، ولا ذنب لها في ذلك، هي الطريقة التي نستمع فيها إلى أم كلثوم في إذاعاتنا. كانت محطات الراديو في سورية تُسمعنا أغنيات أم كلثوم طوال المساء والليل مثلما يفعلون مع أغنيات فيروز في الصباح، وكأن لا موسيقى وأغنيات في العالم إلا ما غنته فيروز وأم كلثوم.
على كلّ حال في المساء الذي قرأت فيه المقالة استمعت إلى أغنية الأطلال -كلمات الشاعر إبراهيم ناجي، تلحين الموسيقار رياض السنباطي، غناء أم كلثوم- لثلاث مرات متتالية، كنت أشاهد فيها أم كلثوم تغني على المسرح بمتعة لا تضاهيها متعة، ربما لم تغني كذلك طوال حياتها. أحببت أم كلثوم للمرة الأولى حين رأيتها تغني “عن العشاق سألوني” في فيلم “سلّامة”، وأحببتها للمرة الثانية في اليوم الذي شاهدتها تغني قصيدة الأطلال البديعة على المسرح.
وجدت في أم كلثوم ما لم أجده في كلّ ما قيل عنها، وفي كلِّ ما كُتب عنها. وأكملت أم كلثوم بهذا الأداء على هذا المسرح المفتوح لهذه الدرّة الخالدة مثلث العظيمات الخالدات إلى جانب أسمهان ونينا سيمون. وجدتُ أم كلثوم أخرى، أم كلثوم لم أعرفها من قبل. وهذا ما وجدته:
تبدأ الأغنية بموسيقى القانون والجمهور الكبير يصفق بحماسة الانتظار، يبدأ كلّ عازف بالعزف على آلته وتظهر أمامنا أم كلثوم جالسة على كرسي أمام الفرقة. تنظر حولها قليلًا. إنّها تبدو قلقة. ربما كان قلق المسرح.
تستمر المقدمة الموسيقيّة وأم كلثوم جالسة، والجمهور يرنو إليها، كما لو كانت آلهة في معبد منعزل فوق قمة جبل. تقف أم كلثوم فيعلو صوت التصفيق والصفير فوق صوت الموسيقى التي تستمر.
بدأت أم كلثوم الغناء: “يا فؤادي”. التصفيق حار وصوته عال. أم كلثوم تبتسم للمرة الأولى وتكمل: “يا فؤادي لا تسل أين الهوى”. هذا الفيديو كما كل حفلات ذلك الزمان مصور بالأبيض والأسود. لا ألوان إلّا أنّنا نستطيع أن نصف ما ترتديه الست. ثوب طويل قد يكون لونه أبيضًا. الثوب المزخرف اللامع يغطي كامل جسمها. تحمل منديًلا بيدها اليمنى المنفلتة إلى جانب الجسد. يدها اليسرى مطوية ومرتفعة إلى مستوى أعلى البطن. ترتدي أقراطًا طويلة وشعرها مرفوعٌ فوق رأسها.
“كان صرحًا من خيال فهوى” تبتسم مرة أخرى وترجع خطوة إلى الوراء. يصفق الجمهور. تعود فتكرر البيت الأول من هذه القصيدة العظيمة. تحرك يديها بحركة متناسقة وهي تغني “طالما الدمع روى”. تحسب أن القهر والشوق يخرج من صميم قلبها حين تقول: “كيف ذاك الحب أمسى خبراً/ وحديثاً من أحاديث الجوى”. يصفق لها الجمهور مرة أخرى. تعيد غناء البيتين الثاني والثالث، ثم تكمل: “لست أنساك وقد أغريتني/ بفم عذب المناداة رقيق” وتبتسم. تعيد هذا البيت وتكبر ابتسامتها. لماذا لم يقولوا لنا أنّ أم كلثوم تمتلك واحدة من أجمل الإبتسامات؟
لا أستطيع وصف ما أحس به حين تغني: “ويد تمتد نحوي كيدٍ/ من خلال الموج مدت لغريق – وبريق يظمأ الساري له/ أين في عينيك ذياك البريق”. حين تقول كلمة “غريق” أحس بطوفان الماء حولي، وعند الكلمة التالية “وبريق” أحس بأمل تعطيني إياه بعذوبتها.
تختلف الموسيقى بعد هذا المقطع، يقاطع الجمهور العازفين بالتصفيق والصياح. فتعود أم كلثوم لغناء الأبيات السابقة. تكمل الموسيقى طريقها بمقام جديد وسط تصفيق الجمهور. كوكب الشرق تتمايل طربًا مع هذا اللحن البديع.
تبدأ المقطع الثاني بمناجاة حبيبها مبتسمة فرحاً بقدرتها على إطراب هذا الجمهور كثير العدد: “يا حبيباً زرت يوماً أيكه”. تضم يديها نصف ضمة أحياناً أثناء الغناء، ثم تفرد راحتها إلى الأمام. دائماً ما كانت يدها اليسرى أعلى من اليمنى. في بعض المرات حين تغني كلمات معينة تقف أم كلثوم على رؤوس أصابع قدميها. تبتعد أحياناً عن المايكروفون لكن صوتها القوي الرخيم لا يأبه بهذا.
حين تغني “وحنيني لك يكوي أضلعي/ والثواني جمرات في دمي” تحس بأنّها أدخلت جمرات إلى دماء الحاضرين في المسرح. تحسّ بهذا من صوت التصفيق العالي الذي يطغى على كل صوت آخر. تتمايل أم كلثوم وهي تعيد غناء هذا المقطع. تحسّ أنّ جسدها يتقدم إلى الأمام وكأنّها ترغب في الطيران والوصول إلى جسد حبيبها المجهول. تضع يدها بالقرب من قلبها حين تقول “أضلعي”. تنهي غناء هذا المقطع. تبتسم. تعود خطوة إلى الوراء. يصفق الجمهور. ما الذي كان يفكر فيه إبراهيم ناجي حين كتب هذا الكلام؟ يا للعظمة!
“أعطني حريتي أطلق يديا” تغنيها بقوة وترفع ذراعيها. يصفق الجمهور. تكمل “إنني أعطيت ما استبقيت شيّا”. صوتها في هذا المقطع أقوى من المقاطع السابقة وكأن الألم قد امتلكها. “آه من قيدك أدمى معصمي” تعيد “آه” مرة ثانية. أحس بأن هذه “الآه” تخرج مني. أصابُ بالقشعريرة. “وإلام الأسر والدنيا لديا” وتفتح ذراعيها على اتساعهما كأنّها تريد احتضان الحبيب أو الجمهور. يتفاعل معها الجالسون أمامها ويصفقون لها بحرارة.
تعيد غناء هذا المقطع مرة أخرى بنفس القوة والحب والألم. بماذا كانت تفكر فاطمة بنت الشيخ إبراهيم السيد البلتاجي حين كانت تغني هذه الأغنية؟ هل تذكرت طفولتها في تلك القرية البعيدة؟ هل كانت تتذكر بداياتها؟ هل فكرت بحياتها ومعنى حياتها حين كانت تبتسم وتنظر في الاتجاهات المختلفة لترى الاستمتاع والحب على وجوه من قطعوا مسافات طويلة لحضور حفلها، فقط لأنّ اسمها أم كلثوم؟ ربما لا يوجد شخصٌ أسعد منها في العالم في هذه اللحظات. تكبر ابتسامتها مع اشتداد تصفيق الجمهور.
تعيد المقطع مرة أخرى بعد فاصل موسيقي. أهذا لحن أغنية أم هذا لحنٌ يلخص الحب في العالم؟ ماذا الذي كان يفكر به رياض السنباطي حين وضع هذا اللحن؟ هل كان هذا اللحن من صنع البشر أم أنّ وحياً ما وضع النوتات الموسيقيّة؟ يالجمال وعظمة هذا اللحن!
في الفاصل الموسيقي التالي تصيح أم كلثوم: آآآآآآه. تكبر ابتسامتها. يتفاعل الجمهور تصفيقاً. تستمر الموسيقى في دورتها اللانهائية. تهتز أم كلثوم وتحرك نفسها بتحفظ. كأنّها ترغب بالرقص. تطلق “آآآآآهًا” عالية أخرى. يصفق الجمهور دون تعب. “آه” صغيرة تخرج من قلبها الفَرِح.
يبدأ المقطع الجديد بجدية وينتهي بيته الأول بابتسامة: “أين من عيني حبيب ساحرٌ/ فيه عز وجلال وحياء”. تكبر الابتسامة. لا أستطيع التأكد من هذا في صورة الأبيض والأسود هذه، لكن أكاد أجزم بأنّها تغمض عينيها حين تقول: “واثق الخطوة يمشي ملكاً/ ظالم الحسن شجي الكبرياء – عبق السحر كأنفاس الربى/ ساهم الطرف كأحلام المساء” تحرك يديها كثيرًا وهي تغني. تبتسم. تتمايل وتهتز طرباً على غنائها. تحرك رأسها يميناً وشمالاً. يصفق الجمهور بحرارة كبيرة. تستمر الموسيقى. تقول “آه” طويلة لا تريدها أن تنتهي.
تعيد غناء المقطع. عند كلمة “واثق” تبدو وكأنها تريد القول: هذه جملة سأتركها للزمن، ويتداولها الناس من بعدي. يا إلهي ما هذا الحب الذي تغني له هذه المرأة؟ يتكرر المقطع الموسيقي وتتكرر الآه ويتكرر التصفيق.
تسكن موسيقى الآلات الموسيقيّة باستثناء صوت آلة القانون الذي يتخلله بعض اللحن من آلة الكمان. يصرخ أحد الحاضرين من الجمهور بشيء ما، صوت ضحك وابتسامةٌ من أم كلثوم. إنّها تحب أنّ الناس يحبونها. تستمر الموسيقى بجريانِها العذب. يالله!
“أين” طويلة تبدأ به الست غناء المقطع الجديد: “أين مني مجلس أنت به”. تناجي العالم والسماء اشتياقاً للقاء المحبوب. “وأنا حب وقلب هائم/ وفراش حائر منك دنا”. يا لهذه الـ”أين” وما تحمله من معان. الموسيقى هادئة في هذا المقطع حتى الآن “ومن الشوق رسول بيننا” تستمر المناجاةُ نداءً للحبيب، واستحضار ذكريات لا تنتهي “ونديم قدّم الكاس لنا”. يعلو الصوت في كلّ مرة تعيد فيها هذه الجملة حتى تصل أقصاها في “لنا” ويستمر الصوت بنفس الطبقة في البيت التالي “هل رأى الحب سكارى مثلنا/ كم بنينا من خيال حولنا” تعيد البيت مرتين… ثلاثة… أربعة…عشرة وتستمر الذاكرة في تذكر الحبيب.
مشاعر متناقضة تظهرها أم كلثوم؛ لوعة واشتياق وحب في الكلام واللحن والأداء وحب وفرح بتفاعل الجمهور مع غنائها. ياله من مزيج رائع لا يوصف!
تستمر بالغناء فرحًا بتذكر اللقاء “ومشينا في طريق مقمر/ تثب الفرحة فيه قبلنا – وضحكنا ضحك طفلين معاً/ وعدونا فسبقنا ظلنا” يصفق الجمهور كما لم يفعل قبلاً. تبتسم أم كلثوم وهي تهتز وتتمايل على اللحن الرائع وصوت الناي الحنون. تفتح ذراعيها، المنديل في اليد اليسرى الآن. تعيد غناء هذا المقطع. تشعر وكأنّ هذا المقطع هو قلب هذه الأغنية. أم كلثوم تشعرك بذلك حين تغني هذا المقطع. إنّها تقول: هذه الأغنية هي تحفتي وقلب هذه التحفة هو هذا المقطع وقلب هذا المقطع هو كلمة “سكارى” أنظروا كيف أنطقها.
أم كلثوم جذلى بتفاعل الجمهور معها. أم كلثوم تحب أن تكون مركز الاهتمام. تعيد الـ “آه” في الفواصل الموسيقيّة من أجل إمتاع الجمهور ومن أجل أن تشعر بأثر ما تقوم به.
تعيد غناء “هل رأى الحب سكارى” يصفق الجمهور، يصيح، يتمايل، إنّها ليلة العمر. أم كلثوم تغني مبتسمة أمامهم. لا بدّ أنّها كانت فتاة أحلام عدد كبير منهم، فضلاً عن الآخرين غير القادرين على الوصول إلى هذه القاعة لأسباب مختلفة. تمد ذراعها اليمنى على اتساعها حين تقول “فسبقنا ظلنا” وتثير هياج الجمهور الذي يصفق، وهي تبادله بالابتسام والحب الذي يطفو على وجهها.
تعيد مرة أخرى غناء المقطع. تتفن في نطق كلمة “سكارى” في كلّ مرة تغنيها وتلحقها بـ”آه” تخرج من صميم القلب. آه على الـ “آه” التي تنطقين بها يا أم كلثوم. آه على غنائك. آه على ابتسامتك. آه على كلّكِ.
تهدأ الموسيقى بأصوات الكمان. يبدأ الألم “انتبهنا بعدما زال الرحيق/ وأفقنا ليت أنّا لا نفيق”. تختفي الابتسامة. “يقظة طاحت بأحلام الكرى/ وتولى الليل والليل صديق”. تختلف نبرة الصوت وحركات اليدين متناسقة مع ميل قليل إلى الأمام “وإذا النور نذير طالع/ وإذا الفجر مطل كالحريق – وإذا الدنيا كما نعرفها/ وإذا الأحباب كلّ في طريق” تعود خطوتين إلى الوراء لتعطي المجال للموسيقى. تتقدم إلى الأمام وتصيح “أيها الساهر تغفو/ تذكر العهد وتصحو”. تعيد غناء هذا البيت الشعري ويستمر الألم وتستمر المعاناة: “وإذا ما التأم جرح/ جدّ بالتذكار جرح”. تعيد النداء “أيها الساهر” تعيد الغناء بهدوء رغم ارتفاع طبقة الصوت في نهاية هذا المقطع حين تقول “فتعلم كيف تنسى/ وتعلم كيف تمحو”.
يرتفع صوت الموسيقى مترافقًا مع صوت التصفيق وجنون الجمهور المتواجد في المسرح. تداعبهم أم كلثوم بآهات متقطعة وهم يتقافزون ويتمايلون طربًا بصوتها القادم من كوكب آخر.
“يا حبيبي كلّ شيء بقضاء/ ما بأيدينا خلقنا تعساء” هكذا نستسلم للقدر. هكذا يقول لنا إبراهيم ناجي على لسان أم كلثوم. هكذا لا قدرة لنا. “ربما تجمعنا أقدارنا/ ذات يوم بعد بعدما عز اللقاء – فإذا أنكر خلّ خلّه/ وتلاقينا لقاء الغرباء” يرتفع صوت الموسيقى ويرتفع صوت أم كلثوم. تُنهي الأغنية بقفلة عالية وسط صخب تصفيق الجمهور “ومضى كلّ إلى غايته/ لا تقلْ شئنا فإنّ الحق شاء”.
انتهت الأغنية بإبتسامة أم كلثوم. لا ندري إن كانت قد تركت المسرح فورًا أو أنّها انحنت للجمهور وحيّته. بماذا كانت تفكر بعد أن أنهت أداء هذه الأغنية؟ ما فعلت حين وصلت إلى بيتها وأغلقت على نفسها باب غرفتها؟
أستمع إلى الأغنية الآن وأفكر: من قال إنّ أم كلثوم قد ماتت؟
Comentarios