ملاحظة: قد يكون رسم ملامح الشخصية المكتوبة في الأسطر التالية غير مطابق للواقع، بل هو خليط من ذاكرة وخيال ومعلومات جُمعت لتشكل هذا الوجه غير المحبب.
كنت طفلاً في العاشرة من عمري ألعب كرة القدم في شارع بيتنا في مدينة القامشلي البعيدة، أذكر أنّ الشارع كان وسخاً، أكياس الزبالة عند الزوايا تنتظر شاحنة البلدية لتحميلها، بعض النسوة يقفن يتحدثن أمام أحد البيوت، سيارات من النادر أن تمر، الغبار كان كثيفاً والجو كان حاراً، أمي على الشرفة تنادينا أن نصعد إلى منزلنا في الطابق الثاني. أبنية منطقتنا بنيت في زمن الاحتلال الفرنسي، وهي بيوت تتألف من طابقين. تتموضع البيوت بجانب بعضها مشكلة مربعاً يفصلها شارع عن حديقة، أو مدرسة متمركزة في المنتصف.
صعدنا أنا وأخويّ إلى البيت، أحدهم في السادسة والآخر يكبرني بأربع سنوات، لا أذكر أين كان رابعنا وأكبرنا، كانت أمي قد تلقت اتصالاً هاتفياً من والدي الطبيب في مدينة الحسكة يخبرها بأنّ حافظ الأسد قد مات، وهو يضحك، وهي تُجلسنا في المنزل "لأننا لا نعرف ما سيحدث".
هذا أول ما أذكره، حين استعيد بذاكرتي صورة حافظ الأسد، التلفاز في البيت لا يعرض شيئاً سوى القرآن، أحاديث عن رفعت وبشار الأسد أيهما سيرث الحكم، يخرجوننا من المدرسة في مسيرات لنهتف بالروح بالدم نفديك يا حافظ، ومن ثم بالروح بالدم نفديك يا بشار، أذكر كذلك بأنّني مُنعت من أن أشتم أخي "بشار" بصوت مرتفع في الشارع، خوفاً من أن تسمعني المخابرات، فأُدخل أهلي في متاهات جديدة هم بغنى عنها.
أغوص في ذاكرتي أكثر وأكثر، أحاول استرجاع صورته المرسومة في دماغي، لا صورته التي أراها في نشرات الأخبار. أغمض عينيّ فأرى رجلاً كبيراً في العمر ذا شعر أبيض خفيف، يتحدث بصوت ضعيف شبه مبحوح في نشرات الأخبار، يجلس بطريقة غير مريحة تشعرني بأنّه على أهبة الاستعداد للقيام والانصراف في أيّ لحظة.
كلما ذُكرت كلمة دكتاتور أمامي تقفز إلى ذهني الصورة المعلقة فوق السبورة في غرفة الصف، كان وجه ذاك الشخص غريباً بالنسبة لطفل، وما زال كذلك. وجه مطاول هرمي عريض من الأعلى ضيق من الأسفل، ذقنه ناعمة دائماً، لا أذكر أنّني رأيت شعراً على وجهه يوماً. عيناه ضيقتان نصف مغمضتين، له شارب أبيض يبدو أنّه يشذبه باستمرار، أصلع من الأمام لكن صلعته في جانب رأسه الأيمن أكبر من صلعته في جانبه الأيسر. لم أر رأسه من الخلف أبداً لكن أظن بأنّ رأسه مسطح من الخلف ولا تدوير فيه. يرتدي البدلة الرسمية باستمرار إلا في أيام الاحتفال، كاحتفال ذكرى حرب تشرين، فنراه على التلفاز مرتدياً البدلة العسكرية وفي يده المنظار.
لرأسه تمثال في ساحة الميسات في العاصمة دمشق، هو أغرب أشكال رؤوسه المرسومة أو المصورة على الإطلاق، وقد كتب تحت هذا الرأس بعض أقواله، كقوله: "كنت مسلماً وسأظل مسلماً وستبقى راية الإسلام خفاقة في بلدي"، هكذا أذكر القول. الرأس في هذا التمثال كان يزورني في أحلامي لمدة طويلة حين كنت طالباً في المدرسة الإعدادية.
لنعد إلى البداية، طالب الصف الأول المجتهد ذو الخمسة أعوام، ذهبت إلى مدرستي قبل سنة من العمر المفترض لطالب الصف الأول أن يكونه، لمعرفة مسبقة بين والدي ومدير المدرسة، بالإضافة إلى أنّني مجتهد، وأفضل من باقي الأطفال من هم في عمري كما افترضوا، كانت صورته معلقة في كل الصفوف، وله صورة كبيرة في باحة المدرسة، وبجانبه صورة لشخص آخر، قيل لي لاحقاً بأنّه ابنه الذي توفي في حادث سيارة منذ سنة أو اثنتين، اعتدت على الأمر ولم أعد للسؤال عن هذا الشخص.
لا أعلم في أيّة سنة دراسية امتلكت دفتر الطلائع، أحسبها سنتي الثانية، حينها بدأت الدراسة الحقيقية كما علمونا، إذ كان لا بد لنا من تجليد دفاترنا بذاك الغلاف الكحلي ومن ثمّ نحيطه بطبقة من النايلون ونلصقها على الدفاتر بطريقة مرتبة، ثم نضع صور "القائد الخالد" على الدفتر. بعض "الأذكياء" كانوا يضعون صور حافظ الأسد بين الغلافين كي لا يصيبها الأذى.
ظلت صوره منذ ذاك الحين مرافقة لي أينما ذهبت، في المدرسة والجامعة والملعب والشوارع والفنادق ودور الرقص والعبادة على السواء، كان في كلّ مكان تحسبه يراقبنا واحداً واحداً، ينظر إلينا بنفس الطريقة دون ابتسام وبملامح جامدة. بقي طوال سنوات عمري ينظر إليّ تلك النظرة الجانبية المنتظرة خطأ ما حتى يعاقبني بأشد العقوبات التي من الممكن أن تصل إلى الموت، بقي كذلك حتى أتى ذلك الرجل الحمصي ومزّق صورته "شوطاً" في صورة تكاد تكون الأشهر والأكثر تأثيراً من بين الثورة السورية.
كثيرة هي الصور التي ألصقتها على دفاتري المدرسية، وخاصة دفتر الطلائع في سنوات الدراسة الابتدائية، ودفتر الفتوة في السنوات الإعدادية، كل الصور تمتلك نفس النظرة، كل ما اختلف هو الشخص المرافق له، قد يكون أحد ابنيه باسل أو بشار أو كلاهما. تقول النكتة الشهيرة أنّ بإمكانك شراء الرئيس بشار، وأبيه حافظ، وباسل بليرة سورية واحدة فقط، والمقصود هنا هي الصورة التي تجمع الثلاثة بالطبع.
أغوص في ذاكرتي بشكل أعمق، فأذكر الأناشيد التي ما زلت أرددها أحياناً رغم كرهي لها، لكنه اللاوعي ولا ذنب لي في ذلك، كنّا قد لُقِّنا صغاراً أناشيد لم نفهم معانيها آنذاك، كلها تتغنى بسورية الأسد أو بقائدها الخالد ولاحقاً بوريثه الأحمق. نردد الأناشيد الكارهة للصهيونية والإمبريالية والحاقدة على إسرائيل والممجدة لحافظ الأسد، مالك المكان وسلطان الزمان، كمثلها: "حافظ أسد يا عيوني/ لابس طقم الليموني/ عندو ساعة لمّاعة/ بتسوى كل الجماعة"، "للبعث يا طلائع للنصر يا طلائع..."، "سبعة نيسان يا رفاق/ ميلاد الحزب العملاق.." إلخ.
ظل صوت حافظ الأسد وصورته يلاحقانني حتى عام 2004 حين رأيت تمثالاً له في مدينة عامودا يداس بالأقدام، وذلك خلال الانتفاضة الكُردية آنذاك. رحل جزئياً، لكنه بقي ملازماً لذاكرتي، إلى أن بدأت الثورة السورية في مارس/آذار 2011، كان كل تمثال يُحطم يشعرني بأنّ ذاك المكان البشع في ذاكرتي يموت، كل صورة مُزقت أحسست بأنّني من مزقها، كل هتاف كان يشتمه كان صوتي، كان هتاف "يلعن روحك يا حافظ" هتافي المفضل، وسيظل، لِما كان لحافظ من سطوة علينا نحن المتعبين في حياتنا، نحن المحرومين من كلّ شيء منعه عنا لغاياته الدكتاتورية. وتبقى الحسرة الوحيدة في قلبي أنّ هذه الثورة لم تكن على زمن الدكتاتور الأعظم حافظ الأسد ولم يرَ هذا المجرم كيف استطعنا كسر جدار خوف بناه بيديه حجراً حجراً، لقد حطمناه بصرخة واحدة.
هيه أنت، حافظ الأسد، لقد دمرنا مملكة الخوف والموت التي بنيتها لقد دمرنا ذاكرة بشعة أورثتنا إياها، فلتتألم في قبرك، وأنت ترى ما بنيته يُحطم من جذوره، وأنت ترى ابنك المغفل يبيع خرابك لاحتلال جديد، لأنّه لا يستطيع إخماد صوتنا. يا حافظ الأسد لقد فشلت في بناء مملكة خالدة، وفشلت في منح الحياة ذرية قوية قادرة على قيادة مملكتك، فلتتألم في قبرك، فلتتألم.
Comments