@ رصيف ٢٢
كنّا نجتمع في ساحة الأمويين -واحدة من الساحات الرئيسيّة في دمشق- في الساعة التاسعة صباح كلّ يوم سبت. مجموعة مؤلفة من حوالى عشرين شابًا وصبية، معظمنا طلاب جامعيون أو شباب تخرجوا حديثًا، ننتظر الباص الأبيض الصغير -كان اسمه في سوريا "سرفيس"- الذي كنّا قد اتفقنا معه مسبقًا على أن ينقلنا إلى قرية رسم الطحين التابعة لمنطقة سعسع في محافظة ريف دمشق، والتي تبعد حوالى 50 كيلومتر عن مكان تجمعنا في دمشق.
تقع القرية على الطريق العام القديم الواصل بين مدينتي دمشق والقنيطرة، ولا يتجاوز عدد سكانها المئات، وهي قرية زراعيّة وفيها مدرسة واحدة. حينذاك كانت تنتشر في أراض هذه القرية خيام نُصبت على عجل، يقيم فيها نازحون سوريون هاربون من جفاف نهر الفرات في شرق البلاد.
اشتد الخناق على سكان محافظات الرقة والحسكة ودير الزور بعد سنوات من ندرة الأمطار والتصحر الذي بدأ يغزو أراضيهم الزراعيّة التي بدأت بالاختفاء تدريجيًا. الحكومة السوريّة وقتذاك لم تقم بمشاريع جديّة لجرّ المياه واستصلاح الأراضي وإيجاد مشاريع صرف صحي، مما أدى لزيادة تلوث المياه الزراعيّة بنسبة 59٪ حسب قول وزيرة البيئة عهدذاك. كلّ هذا أدى إلى نفوق أكثر من 85٪ من الماشية في شرق وشمال شرق سوريا وهجرة عشرات الآلاف من سكان تلك المناطق إلى المدن الكبرى، كانت إحدى الإحصائيات قد قدّرت عدد النازحين السوريين حتى بداية سنة 2011 بحوالى ستمئة ألف نازح، وأولئك كلّهم عاملون زراعيون أصبحوا عاطلين عن العمل ولم توجِد الحكومة مشاريع لتشغيلهم.
كان هؤلاء يعيشون في بيوت صفيح وخيم سيئة منتشرة في ضواحي مدن حلب وحمص وطرطوس ودمشق. كان بالإمكان رؤيتهم والوصول إليهم بسهولة لولا العمى الاجتماعي الذي كنّا نعيش فيه. معظم السوريين حينذاك لم يكونوا على علم بهذه الكارثة بسبب الحظر المفروض من قبل الحكومة السوريّة على الحديث عنهم ومنع العمل معهم ولأجلهم، كما كانت تمنع وسائل الإعلام من الوصول إليهم.
كنّا نحن، مجموعة الشباب، قد تطوّعنا من أجل تعليم القراءة والكتابة لبعض هؤلاء الأطفال، وذلك بمبادرة فرديّة من أحد الأشخاص المنحدرين من تلك المنطقة. وقع اختيارنا على المخيم المقام في قرية رسم الطحين ومخيم آخر على مقربة منه، ولذلك لسهولة الوصول إليهما ولعدد الأطفال الكبير هناك.
في البداية، كان عدد المتطوعين أربعة وفي الشهر الثاني أصبحوا عشرة ومن ثم زاد العدد قليلًا، كانت المهمة الأصعب في أولى جولات يوم السبت التعليميّة هي كسب ثقة الأطفال وعائلاتهم. كان علينا أن نقنعهم بأنّنا شباب لا ننتمي إلى أيّة جهة ولا نريد شيئًا منهم ومن الأطفال سوى تعليمهم القراءة والكتابة وحمل بعض ثياب التبرعات وبعض ألعاب الأطفال ولا مصلحة شخصية لنا.
في البدء كانوا يخافون منّا، لكن مع الوقت عرفوا أنّنا قد جئنا لخدمتهم. بعد فترة من الزمن أصبح الأولاد ينتظرون قدومنا الأسبوعي بكلّ لهفة، كانوا يستقبلوننا كما يستقبلون العيد. لقد كانوا معزولين عن المجتمع المحيط بهم وعن سوريا وعن العالم.
في البداية اعتقدنا أنّ الحالة مؤقتة وستزول، لكن مع استمرار الكارثة ومع تعلق الأطفال بنا، بدأنا نشعر بمسؤولية كبيرة، خاصة أنّنا أصبحنا أصدقاء سكان هذه المخيمات. لقد تعلقنا بهم… كنّا نشتاق لهم. خلال عملنا التطوعي في تلك المخيمات كان الأمل أن نُوصل صوت معاناتهم إلى الناس، حاولنا بشتى الوسائل إحضار وسائل إعلام محليّة وخارجيّة من أجل الكتابة عنهم وتصوير معاناتهم، لكن سيارة المخابرات التي تستقبلنا كلّ أسبوع كانت تمنع الصوت والصورة من الخروج إلى العلن.
قبل وصولنا أو بعد وصولنا بدقائق كانت تصل سيارة المخابرات، العناصر أنفسهم ودفتر التحقيق الكبير نفسه. كانوا يحققون معنا في كلّ أسبوع؛ أسماؤنا، عائلاتنا، غاياتنا، منعٌ من التصوير أو الحديث إلى الإعلام وتحذيرٌ من المسِّ بهيبة الدولة، الدولة التي لم تطور خطط تنمويّة لنصف مليون شخص من شعبها، الدولة التي بعد شهور قليلة بدأت حربًا مفتوحة ضد هذا الشعب.
مرة، جاء عناصر المخابرات متأخرين ويبدو أنّهم لم يكونوا بمزاج لائق للتحقيق، وبالصدفة كنت اجتمع مع الأطفال الذين أعلمهم أمام الخيمة الأولى في مدخل المخيم. رآني العنصر وناداني: عمي دلير أنتو نفسكم تبع الأسبوع الماضي؟ أجبته بنعم فبدأ يكتب بنفسه الأجوبة التقليديّة عن أسئلة الأسبوع التقليديّة دون أن يسألنا.
هذه هي صورة سوريا الأسد أطفال مخيم رسم الطحين لا يتلقون أيّ تعليم، حتى المدرسة الوحيدة في القرية لم تكن تستقبلهم وتتعامل معهم بعنصريّة كبيرة. رجال هذا المخيم يعملون في الأراضي الزراعيّة المجاورة بأجر يومي متوسطه خمسون ليرة سوريّة (ما يعادل دولار أمريكي واحد في تلك الفترة) لا تكفي ثمن نصف وجبة طعام لعائلة مؤلفة، وسطيًا، من خمسة. الآلاف من نازحي شرق البلاد لا يلقون أذنًا صاغية لشكواهم. مخابرات تتحكم بالماء والهواء.
في سوريا الأسد، كان الفقر والقهر والذل طريق حياة مئات الآلاف، إن لم نقل الملايين، بينما كان باقي أفراد الشعب يعيشون في "أمن" و"أمان" عائلة الأسد، ومن ثم وبكلّ وقاحة يسألك سائل: لمَ قامت الثورة؟ وبكلّ جهل وغباء يسألون: لمَ كفر هذا الشخص بوطنه؟ حينذاك لا تكون الإجابة إلا: هنيئًا لكم بشار الأسد، اذهبوا وعيشوا في نعيم مخابراته وفضل شبيحته.
Comentarios