قرأت على موقع ويكيبديا ما يلي في تعريف السجّاد:
«السجاد أو البساط هو نوع من الفرش، الذي تفرش به أرضيات المنازل والمكاتب، وتعلق أيضًا على الجدران للزينة والمحافظة على نظافتها. ومن أشهر أنواعه السجاد الإيراني الذي يتميز بجودته وصناعته اليدوية. قبل خمسمائة سنة، كان يستعمل نبات الأسل قبل اكتشاف السجاد وكان يُغيّر من فترة لفترة. ولأهمية السجاد في تلك السنين كان يقدم كهدايا ثمينة في البعثات الأوروبية».
سجّادٌ في هامبورغ
طلَب مني متحف الفنون والحرف في مدينة هامبورغ الألمانيّة أن أقوم بصناعة فيلم قصير عن عملية الرقمنة وتوثيق القطع الفنية والأثرية التي يحتويها المتحف. تجولتُ في قاعات المتحف ليومين، شاهدتُ ما يهمني وما لا يهمني. رأيتُ الكثير من الأشياء غير المتاحة للعامة، دخلتُ المستودعات ورأيت الأدراج المغلقة، لكن أكثر ما لفت انتباهي كانت سجّادة كبيرة متآكلة الأطراف معلّقة على أحد الجدران، ومحفوظة بشكل جيد جدًا.
قيل لي إنّ هذه سجّادة إيرانيّة عمرها أكثر من مئة سنة، ويُقدر سعرها بعشرات الآلاف من اليوروهات. قلت لهم إنّها تشبه سجّادة بيتنا في الشام، كان عندنا اثنان مثلها. قالوا: إذن في بيتكم ثروة. ضحكتْ. قلت لهم إنّ عائلتي فقيرة ومن المستحيل أن ندفع مبالغ طائلة على سجّاد. قالوا إنّ الأوروبيين يحبون السجّاد ويقدّرونه كثيرًا، فهو ليس متوافرًا بكثرة مثل بلاد الشرق.
وكان في بيتنا الدمشقي، الذي تتقاسم عائلتي العيش فيه مع عائلة جدي، الكثير من السجّاد.
سجّاد سوريا
في الشتاء لا يبقَ مكان واحد في البيت، باستثناء المطبخ والحمّام، ليس مفروشًا بسجّاد وبُسْط. لا مكان يُمكن للمرء أن يضع قدمه عليه ليلمسَ الأرض المرصوفة بالبلاط. سجّاد طويل ضيق، وآخر مربّع يغطي أكثر مساحة الغرفة، وآخر صغير ليغطي مساحة صغيرة في زاوية ما. فوق السجّاد نُشرت البسط والوسائد ليجلس عليها المرء أو ينام.
صار السجّاد أرضًا نمشي عليها. لم نعد نرى الأرض العارية في بيتنا، في الطابق الثالث، من بناء بُني في ثمانينيات القرن المنصرم في المناطق العشوائية، في حيّ الأكراد على سفح جبل قاسيون.
نلمس السجّاد بأيدينا، ونحافظ عليه ما استطعنا، ننتبه إلى المشروبات، الشاي الحلو مثلًا، كي لا تنسكب عليه فتترك بقعة ما لا تُنظّف. لا نمشي بأحذيتنا فوق السجّاد، ذلك خطٌ أحمر لا نتجاوزه مهما كانت الحالة اضطراريّة.
سجّاد الشوارع
في الصيف تنتشر في شوارع دمشق بسطات مؤقتة تبيع البطيخ الأحمر بشكل رئيسي، وفاكهة موسميّة أخرى. والبسطات هي الاسم الشائع للمكان المؤقت الذي تُباع فيه أشياء مختلفة لفترة محدّدة من الزمن.
كانت هذه البسطات تفترش زوايا الشوارع، يجلس الباعة فوق بسط وسجاجيد عتيقة، ويفرشون فاكهتهم فوق مصاطب خشبية مختلفة الارتفاع، ويغطي البسطة غطاء قماشي يقيها من الأمطار المفاجئة أو من أشعة صيف الشمس الحارقة.
عند انتهاء الصيف وقدوم فصل الخريف، كان المكان يتحول لبيع أنواع السجّاد والموكيت والبسط مختلفة الألوان والأشكال والأحجام، تحضيرًا للشتاء الذي يطرق الأبواب.
في حيّ ركن الدين، حيث سكنت عائلتي، كان بائع السجاد يفرش سجاجيده على الرصيف المجاور لطلعة الكيكيّة، فوق سور الحديقة العامة. كان ذلك طريق البيت، نمرُّ به في الذهاب والإياب. أتذكر نفسي أحملُ على كتفي سجادة اشترتها جدّتي، وصعدنا بها إلى بيتنا المُطلّ على دمشق.
أشعر أنّ من الغرابة أن ذاكرتي ما زالت تحمل في طياتها شعور جلد يدي وهي تلامس السجّاد.
سجادة الصلاة
فوق السجّاد المفروش على الأرض، كان جدّاي يفترشان سجادة الصلاة، حتى يقيمانِها. لم يصلِ في بيتنا أحدٌ غيرهما. حين غزت الولايات المتحدة الأمريكيّة وبريطانيا العراق، صلى عمي ليلًا خوفًا من المستقبل، وحين مات أخي في حادث سير صليّت دون أن أعرف كيف تُقام الصلاة. لكنّنا في البيت أقمنا الشعائر الإسلاميّة، مثلًا كنّا نفطر ونتسحّر في رمضان رغم أن لا أحد، سوى الجدّ والجدّة يصومان.
احتوى بيتنا على سجاجيد صلاة كثيرة، وسجادة الصلاة صغيرة، تكفي لشخص واحد وقوفاً ومن ثمّ ركوعاً. وبعد أن ينهي جدي صلاته، كان يطوي سجادته عدّة طيّات ويضعها في زاوية ما في غرفته، فيما كانت جدتي تحتفظ بسجّادتها تحت مخدتها التي تضع رأسها فوقها حين تنام.
ترن في أذنيّ أصوات جدّي وجدّتي وهما يناديان واحدًا من أحفادهما كي يجلب سجادة الصلاة، فالمؤذن يؤذن لإقامة الصلاة. جدّي كان ملّا، شيخًا قارئًا للقرآن وحافظًا له وعلى معرفة ممتازة بقواعد اللغة العربيّة، فيما كانت جدّتي الأميّة التي لا تعرف الكثير من العربيّة تردّد سور القرآن القصيرة التي حفظتها حين كانت طفلة في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم.
كنّا نمازحها أحيانًا ونقول ألا تريدين حفظ سور أطول؟ أو، أيقبل الله صلاتك وأنت ترددين عليه نفس الآيات في كلّ مرّة؟ كانت تقول إنّ الصلاة في القلب وليست الكلمات، وإنّ الدين أفعال وليست أقوال وصلاة وصيام فقط.
غسيل السجاد
في فصل الربيع يبدأ موسم غسل السجّاد. فوق سطح بيتنا الكبير، كنّا نرّش الكثير من المياه لغسل الأرضيّة وجعلها نظيفة قبل أن نبدأ غسل السجّاد. أمامنا تمتد دمشق، وخلفنا جبل قاسيون الذي ما تعب من مراقبة التغيرات الكثيرة التي أصابت دمشق على مرّ السنوات.
كانت أمي وجدتي تقودان عملية الغسيل، وكنّا نحن الأطفال، المساعدين الأبديين لرغبات الأمهات والجدّات، نفرك بالماء والصابون السجاد حتى يصير نظيفًا ويصير الماء الجاري مُتسخًا ببقايا شراب سُكب فوق السجاد من غير قصد أو بقايا طعام تناثرت هنا أو هناك.
في تلك الأيام كان السجاد المغطى بالماء والصابون يتحول إلى ساحة التزلج الخاصة بنا. بأقدامنا الحافية نركض فوق السجّاد ونبلّل ثيابنا بالمياه الباردة ونجفّف أنفسنا تحت الشمس. فرحنا بدا حقيقيًا آنذاك، ولم نكن نأبه بصراخ الجدّة أو الأم وهما تنهراننا عن القيام بحركات القِردَة، كانتا فرحتان بنا على الأغلب، لكن أعباء البيت الكبير وضيق الوقت كانت تجعلهما يستعجلاننا دائمًا.
يبدو لي أنّ الوقت كان أطول في ذلك الزمان، وأن ساعات اليوم الواحد في ذلك البيت كانت تمتد أكثر من ساعات اليوم الواحد في شقتي البرلينيّة.
سجاد برلين
بعد انتهاء مشروع الفيلم القصير لمتحف هامبورغ، صرتُ أحسّ أن أرض بيتي الخشبيّة ناقصة. الأرض تحتاج إلى سجّادة تشبه سجّاد بلادنا، لا هذا السجّاد البشع المنتشر في البيوت الأوروبيّة، كنت أقول لشريكتي. صرتُ أبحث عن سجّادة عن طريق شبكة الإنترنت. لم أعثر على ضالتي. كلّ شيء كان غالياً جدًا. يبدو أنّ القيّمين/ات على المتحف قد أصدقوني القول.
أرشدتني صديقة إيرانية إلى امرأة إيرانية مسنّة تعيش في فرنسا منذ سنوات طويلة وما زالت تحتفظ بسجّاد بيت عائلتها. أحببنا الصور التي أُرسلت إلينا، لكن المبلغ الذي طلبته كان أكثر من قدرتنا على الدفع.
تأجّل الأمر حتى الشتاء اللاحق، حين عثرت عبر إعلان مُموّل على موقع من مواقع التواصل الاجتماعي لمنفذ بيع إلكتروني ألماني يبيع سجّاد إيرانيًا وتركيًا ومغربيًا ، ويعرض تخفيضات كبيرة على أنواع محدّدة. اشتريت سجّادة تغطي أرض الغرفة بشكل شبه كامل تقريبًا. سجّاد يشبه سجّاد بيتنا في الشام.
استلقي على السجّاد، أشعر وكأنّما هذا السجّاد يربطني بجذوري التي تركتها في سوريا.
Comments