"هنا لا وجود لله، لقد منعَ حافظ الأسد الله من دخول هذا السجن"، هذ ما قاله أحد سجناء جحيم تدمر نقلًا عن الضابط الذي كان في استقباله عندما تمّ تحويله إلى ذلك المكان المنفي في الصحراء. سجن تدمر هو ذاكرتنا التي أبيدت واقتلعت من جذورها. هو الذاكرة التي صنعها نظام الأسد ومسحتها داعش وكأنّها لم تكن.
يكفي ذكر الاسم كي يشعر المواطن السوري بالذُّلّ. يكفي ذكر الاسم حتى يشعر المرء فينا بالخوف والرهبة والذعر. يكفي ذكر الاسم كي نستحضر تلك القصص المرعبة القادمة من مدينة تعلمنا في المدارس أن نفتخر بتاريخها كيف لا وهي كانت رمز مقاومة روما العظيمة، مدينة زنوبيا التي حولها حافظ الأسد إلى مدينة الرعب.
الخبر: قام تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام "داعش" بتفجير سجن تدمر ونسفه بالكامل بعد ملئه بالعبوات الناسفة يوم السبت الموافق الثلاثين من أيار/مايو من العام 2015، وذلك بعد أقل من عشرة أيام على سيطرتها على مدينة تدمر إثر انسحاب قوات النظام السوري من المدينة.
يقوم تنظيم الدولة "داعش" بتقديم خدمات جليّة للنظام السوري لا مجال لحصرها أو تفنيدها هنا، قد يختلف الناس عند هذه النقطة لكن مما لا شكّ فيه فإن داعش قد خدمت نظام الأسد بتفجيرها سجن تدمر وتغييبها للجرائم التي شهدها هذا المكان. تلك الجرائم التي قام بها حافظ الأسد وشقيقه رفعت الأسد وآخرون تناوبوا على إدارة هذا "الصرح العظيم" وراح ضحيتها الآلاف بين قتلى ومفقودين. ألم يكن أحرى بهؤلاء الحفاظ على هذا البناء كشاهد على تاريخ القمع السياسي لنظام الأسد؟
الخبر: منذ نهايات السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات شهد سجن تدمر مقتل واختفاء الآلاف، ويعتقد بأنّ عدد الداخلين إلى هذا البناء المزروع في الصحراء، والذي يعود بناءه إلى عام 1966، قد قارب خمسين ألف معتقل، وهي أرقام تقديرية لعدم وجود إحصاءات دقيقة في ظل دكتاتورية الأسد. في هذا المكان المصمم لإنزال أكبر قدر من المعاناة والإذلال والخوف والرعب بالسجناء والمصنف كواحد من أفظع السجون في العالم فقد الكثير من الناس أقرباءهم وأصدقاءهم وأحبابهم دون أن يستطيعوا التفوه بكلمة واحدة في مملكة الصمت الأسديّة.
سجن تدمر ليس مكان الرعب الوحيد في سوريا الأسد، لكنه الأكثر رعبًا، هو "الشيء" الذي كان الناس يخافون ذكر اسمه في مجالسهم الخاصة، بل أكثر من ذلك؛ كان المرء يخاف ذكر المكان حتى بينه وبين نفسه، فأسطورة المذبحة الشهيرة في أوائل الثمانينيات مزروعة في الذاكرة البعيدة لدى كثير من السوريين. رغم عدم الحديث عن هذه الواقعة، التي حدثت في عهد حافظ الأسد، إلا إنّها متواجدة بقوة في الذاكرة الجمعية السوريّة وخاصة بعد أن أعيد التذكير بها بعد بدء الثورة السوريّة في أواسط آذار/مارس 2011.
المجزرة وقعت في عام 1980 وراح ضحيتها المئات أو الآلاف، إذ إنّ العدد غير معروف بدقة لتكتم النظام السوري الشديد ولكثرة المفقودين في هذا السجن الصحراوي. يقال إنّ هذه المجزرة وقعت كردة فعل على محاولة فاشلة لاغتيال حافظ الأسد. على كل حال فإن هذه المجزرة واحدة من عدة مجازر جماعية حدثت في سجن تدمر فضلًا عن الإعدامات الميدانيّة التي كانت تحدث كلّ أسبوع. المؤسف أنّنا الآن لا نذكر سجن تدمر إلا نادرًا، قد يُبرر الأمر بسرعة الأحداث وتواليها وبالجنون الذي أصاب كلّ شيء في هذه البلاد، إلا أنّني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن التفكير في ذلك المكان، عن التفكير في الأصوات التي كانت تعلو من هناك في ليالي البادية الباردة.
أحاول أن أمنع نفسي من تخيّل صور الزنزانات والممرات التي غُسلت بدماء الآلاف من البشر، أفكر بأشلاء بشرية بقيت آثارها على الجدران التي فُجرت. لم يبق أثر للجريمة سوى في بعض النصوص والكتب والمقالات.
سجن تدمر ذاكرتنا البشعة، ذاكرتنا الحقيقيّة، ذاكرة سوريا الأسد التي كنا نعيش فيها.
Kommentare