كاميرا متحركة وصورة مهزوزة على طريق ما، صوت ما يحكي لنا ما يبدو أنّه رسالة، رسالة إلى عمر أميرالاي بصوت صديقته هالة العبد الله، صديقته منذ عشرات السنوات وزميلته في المهنة. يبدو الصوت وكأنّه يرسل رسالة إلى أميرالاي في غيابه، أو ربّما يرسم لنا صورة له، صورة لـ"المخرج المتمرد" مثلما يُوصف لاحقًا في الفيلم.
تنتقل الصورة بعدها لوجه عمر، الذي يسأل عن سبب رغبة هالة في صناعة فيلم عنه. تقول لي هالة العبد الله في مكالمة تلفونيّة إنّ "أصل الفيلم كان عن عمر وعن علاقته بالنساء، وبأمه، لأنّه يهمني بالمعنى الشخصي والمعنى العام، لما له من أثر ولموقعه المهم في المجتمع. كان لعمر هالة تحيط به، هالة يراها الآخرون".
كانت العبد الله تريد أن تصنع فيلمًا يحمل مقاربة اجتماعيّة نسويّة، عن طريق رسم صورة لعمر أميرالاي، دون أن تحكي عن أفلامه بشكل مباشر. لكن رحيل عمر أميرالاي المفاجئ، في شباط 2011، حال دون إتمام ما بدأت به.
بعد حوالي عشر سنوات من التصوير الأولي، عادت هالة العبد الله إلى مادتها الخام لتصنع فيلمًا جديدًا، معتمدة على تلك المقابلتين الطويلتين اللتين أجرتهما في بيت أميرالاي في دمشق، حين كان يعتني بأمه المريضة، والتي ماتت بعد تلك المقابلتين بأشهر قليلة.
الفيلم الذي بين أيدينا اليوم، مبني على مقابلات أوليّة استطلاعيّة، وكانت الخطة الأصليّة تقول إنّ التصوير الأساسي سيتم لاحقًا، لذلك كانت دقة الصورة منخفضة وكان التصوير سريعًا ومرتجلًا، والصوت سيئًا نسبيًا، لكن في المرتين التي جلس فيها عمر أمام الكاميرا أغدق على هالة معلومات كثيرة لدرجة فاجأتها. حكى أميرالاي مثلًا عن الانتماء، وقال إنّه أراد أن يكون ضابطًا لا سينمائيًا، تخيّل إنّه قد يكون ضابطًا جيدًا ذو نفس انقلابي، لكنّ السينما أخذته بعيدًا، يحكي عن أمه وعن علاقته بها وعن مرضها الذي يلعب دورًا أساسيًا في الفيلم، ويحكي عن هالة وعن السينما وعن أفلامه.
تكمن أهمية الفيلم في أنّه فيلم يحكي سيرة عمر أميرالاي بصوته، وكأنّ عمر يقوم بكتابة مذكراته، هذه المرّة عن طريق الكلام أمام الكاميرا. لكن يبدو أن هناك فيلم آخر، وهو فيلم هالة، تعليقها الصوتي واللقطات التي استعملتها من أفلام عمر تُظهر الفيلم الآخر، وهو فيلم يحكي عن رسالة تكتبها هالة لعمر.
كأنّ الفيلم فيلمان، واحد يحكي عن عمر وأفلامه وأفكاره وحياته، وآخر يحكي عن علاقة هالة بعمر وعن أحاديثهم وتاريخهم المشترك، وأخيرًا عن اشتياقها له.
ينتمي فيلم "عمر أميرالاي، الألم، الزمن، الصمت" إلى السينما الوثائقيّة السوريّة القديمة، ما قبل العام 2011 إن صحّ هذا التقسيم، السينما التي وضع أساساتها عمر أميرالاي بنفسه مع المخرجَين الآخرين، محمد ملص وأسامة محمد، وكانت هالة العبدالله جزءًا أصيلًا من هذه السينما.
تميزت أفلام هذه الحقبة بشاعريتها وبـ"رهافة القلب"، وتقنيًا تميزت باللقطات الطويلة وبعدم الاهتمام بالصوت، وباللقطات التي تخلق صلة وصل بين المشاهد الرئيسيّة مثل لقطات الشباك والمطر والقبر والمظاهرات. لم تحد هالة العبد الله عن ذلك في فيلمها الأخير. لكنّها تقول لي في مكالمتنا الهاتفيّة المُطوّلة، "عملي لا يشبه عمل أسامة (محمد) وعمر (أميرالاي)، طريقة تفكيري في السينما مختلفة. أنا عندي فكرة المغامرة والحريّة بطريقة مختلفة. أنا أؤمن باللحظة دون البحث عن الكمال، الكمال يأتيني من إحساسي باللقطة".
تفكر هالة في فيلمها بصديق عمرها عمر، لكنّها تخرج الفيلم للجمهور بعد رحيله بعشرة أعوام، تعرض اشتياقها لصديقها أمام جمهور لا تعرفه في مدن مختلفة، وتقول بلغتها السينمائيّة إنّها تفكر بالجمهور بطريقة مختلفة، تفكر بما تريد أن توصله لهم، لا ما يريدونه منها. هكذا فكرت هالة طوال حياتها السينمائيّة، وهكذا تركت بصمتها على السينما السوريّة، بصمة لن يمحيها الزمن بسهولة.
Comments