@ المدن 2013
كان يمشي ببطئ حين فاجأت قذيفة المدفعية الجميع بسقوطها على ذلك البناء القريب. الدخان يتصاعد والشظابا تنهمر والناس تركض شرقاً وغرباً، لكن هو لم يفكر حتى بالاختباء أو الهرب، فقد اعتاد الموت والدمار حاله حال الكثير من أبناء بلده، وخصوصاً من تجاوز الستين من سنوات العمر، مثله.
كان أبو وائل يخرج في الصباح الباكر من كل يوم إلى الحي، يتفقد حجارته حجراً حجراً، خوفاً من أن يهرب ما تبقى منها أثناء نومه، يروح ويجيء منذ استيقاظه وحتى غروب الشمس في الشارع الوحيد الممتد بين قناصتين، في تلك البلدة من بلدات غوطة الشام الشرقية والمسماة "عين ترما". لا عمل لديه سوى التحدث مع بعضٍ من رجال العائلات المتبقية بجواره والدعاء لرجال الجيش الحر الموجودين في منطقته، ربما أسعفه الحظ بأن يطلب منه أحدهم شيئاً ما، كتذكيرٍ بوقوع مظاهرة أو انفجار أو اقتحام ما، لكن في غالب الوقت لم يكن أحدٌ يهتم بوجوده، كأنما أصبح جزءً من تراث المكان، كخزان المياه الكبير الذي يجلس قربه.
أبو وائل، ذلك البطل، لم يتوقع بأن يشارك في كتابة التاريخ السوري في سنوات عمره الأخيرة، فما إن بدأ شباب المنطقة بالخروج بالمظاهرات المناهضة للأسد، حتى دبّ الأمل في روحه، فراح يشاركهم بكل ما استطاع من هتاف ودعاء وابن شهيد وبيت مقصوف.
ليس حاله كحال ذاك العجوز من دوما، والذي يكبر أبو وائل بكثير كما يظهر في الفيديو المنشور له. ولربما كان هذا العجوز قد شهد الجلاء الفرنسي عن سوريا، حينها ألقى شاعر الشام "شفيق جبري" قصيدة يتغنى فيها بعظمة الجلاء. ربما احتفظ هذا العجوز ببيتين من هذه القصيدة ليلقيها في يوم كهذا، فحين خرجت مظاهرات دوما الكبيرة كان يتوسط الناس ويصيح بهم:
يا فتيةَ الشام للعلياء ثورتُكم وما يضيع مع العلياء مجهود
جُدتُم فسالتْ على الثورات أنفسُكم عَلّمتُمُ الناسَ في الثورات ما الجُود
نسبة العجائز (أي من تجاوز الستين من عمره) في سوريا حسب الاحصاءات الرسمية تقارب ال 30 في المئة من مجمل عدد سكان البلاد، وهو عدد لا يستهان به، ولا يمكن القفز فوقه، وخاصة حين نتحدث عن الثورة والثوار في سوريا، فكم من رجل كبير السن دفع بأبنائه إلى التظاهر أو إلى حمل السلاح والانضمام إلى الثوار، وكم من رجل عجوز دفع ماله وممتلكاته، ثمناً لحرية منتظرة "ما ظنّ يوماً أنّها ستأتي".
تجاوز الأمر لدى بعضهم، فقام وحمل السلاح بنفسه، عساه أن يتمتع بكرامته آخر أيام عمره، أو أن يورث لابنه تلك الكرامة التي افتقدها أثناء حياته. قاتلوا على أمل الشهادة طريقاً لنصر محتوم، قاتلوا لرفع همم الشباب الصغير العمر، كما ذلك الشيخ الذي كنت تراه دائماً على خط الجبهة الأولى في مدينة حلب، وكأن عمره كعمر تلك المدينة التي صمدت ضد الطغيان في كل العصور، كما يصمدُ في الوجه الظلم هو الآن.
في صورة أُخرى ترى ذلك الرجل الستيني جالساً على شرفة منزله واضعاً ساقاً على ساقٍ، ليست شرفتها واحدة عادية، حيث ترى الحائط الأمامي لها متدلياً جراء قصف قد استهدف البناء، ترى آثار الدمار تحيط به، لكن يبقى هذا الرجل جالساً في منزله دون أن تخيفه القذيفة أو تحركه قيد أنملة، وكأنّ به يقول: "اضربوا ما شئتم، واقصفوا ما أردتم، ودمروا ما وجدتم، لكنكم لن تستطيعوا طي إرادتنا أو أن توهنوا عزيمتنا، لن تستطيعوا قتل الإنسان الجبار فينا".
هم عجائز، شيوخ، كبارٌ في السن، يدفعون كل ما يملكون فداء لشيء قد لا يرونه. يرفعون همم الشباب ويضحون. هم زهرة الثوار وتاجهم، هم من يشورون على الناس بخبراتهم، وينصحون الشباب من تجاربهم. هم عجائز سوريا، كبار في السن والتضحية والصمود.
Comments