بِمَ التَعَلُّلُ، لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ/ وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ.
أقرأ المتنبي وأنا أفكر بما أريده من زمني: "أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني/ ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ"، أفكر بماضيّ
وحاضري، وهذا يقودني إلى التفكير بالسؤال الأول، سؤال الهوية: من أنا؟ من أين أتيت؟ وما هي هويتي؟ ما هو البيت الأصل؟
lê welat şirîntir e
كانت جدتي سلطانة تقول دائماً: Şam şekir e, lê welat şirîntir e ما ترجمته بالعربية: "إن الشام حلوة كالسكر لكن يبقى الوطن أحلى"، وهي من عاشت في الشام معظم سنوات حياتها، وكانت تعدّ وطنها، قرية فقيرة بعيدة في شمال البلاد، أحلى من الشام حيث تعيش، حيث بيتها وحيث عاش معظم أولادها وأحفادها.
كيف كان شكل "غربة" جدتي؟ أكان أساس غربتها اللغة، وهي من تحدّثت بعربية ضعيفة، أم المحيط الذي لم يقبلها ككردية ترتدي أثواباً مزركشة، أم هو نظام الحكم الذي منع عنها وعن قومها الهواء؟ أفكر بجدتي التي رحلت في اليوم الأول من سنة 2020، وأفكر بغربتها الطويلة ومنفاها شبه الاختياري في دمشق. أقول منفاها، رغم أنها كانت تعيش في دولة واحدة، لها عملة واحدة، قانون واحد وحكومة واحدة. لكن، من قال إن المرء لا يعيش المنفى في وطنه؟ من قال إن المرء لا يعيش غريباً في بيته؟
وأنا أفكر في هذا النص وفي هذه الأفكار، قادتني الصدفة إلى لقاء قديم يعود إلى العام 2005، أجرته قناة الجزيرة مع الشاعر والروائي سليم بركات، ضمن برنامج "موعد في المهجر". يحكي سليم بركات عن المنفى وعن الوطن وعن الحريّة في هذا اللقاء. أفزعني بعض ما قاله بسبب درجة تطابقه مع ما مررت به، وأكاد أجزم بأن الملايين من البشر مروا بما يشبه تجربة بركات، الذي يقول في ذلك الحوار: "المنفى دائماً هو المكان اللي ما بيخليك تكون أنت، المكان اللي ما بيتيح لك الحد الأدنى من الحرية، المكان اللي بكون فيه رقابة على كلامك المكتوب وكلامك المنطوق؛ رقابة على حركة جسدك. أنا ما عانيت ببيروت رقابة، ولا حسيت بمنفى على الإطلاق، لأنه كان فيه هامش ما من الحرية عندي؛ هامش ما من الحرية ما ممكن أشوفه بسوريا على الإطلاق، لذلك كان ممكن أعتبر سوريا منفى وبيروت حريتي. خرجت من بيروت ووجدت حريتي في قبرص أيضاً، لا رقابة على حركة جسدي ولا رقابة على حركة كتابتي. لا رقابة على خيالي. الآن أنا في السويد. بالتأكيد هو بلد فيه حرية أكتر من أي مكان آخر، ما فيه رقابات عليك. بس بدك وسط هذه الحرية نوع من الاطمئنان، يعني نوع من الأمان أيضاً، في الإقامة وفي الخبز".
من كلام بركات، من حياة جدتي ومما خبرته في حياتي القصيرة، أستطيع أن أضع تعريفاً صغيراً للوطن: "هو المكان الذي تحصل فيه على خبزك بكرامة مع وجود حريّة مطلقة، كلّ ما عدا ذلك منفى".
المنفى الأول
ولدتُ في دمشق الشام، لكن سُجّلت في دائرة النفوس على أنني من مواليد محافظة الحسكة، مدينة عامودا، كي أحافظ على ارتباطي بالأرض التي انحدَرت منها عائلتي. عشت ست سنوات من طفولتي في مدينة القامشلي، المجاورة لعامودا، لغتي الأم كردية وعربيتي لهجتها مردليّة، وهي اللهجة التي كنا نحكيها في القامشلي.
عادت عائلتي إلى دمشق وكنت في العاشرة من عمري، أحكي بلهجة تختلف عن لهجة أبناء العاصمة، تلك التي صرتُ أعرّف نفسي بها حين كبرت، كلّما سألني أحدهم من أين أنت. كان الصغار يسخرون من كلمات أقولها فلا يفهمونها، وأنا أفهم كلّ كلامهم الذي يشبه كلام المسلسلات التلفزيونية.
أتذكر نفسي أقف في طابور مدرسة الحيّ، أشعر بنفسي غريباً عن أولئك الأطفال، غريباً عن كلماتهم، وحيداً. لكن الأطفال يتأقلمون بسرعة. تغيَرت لهجتي وصرت جزءاً من "شلّة" المدرسة المميزة، والتي يرغب معظم الطلاب بالانتساب إليها.
كبرت وخرجت من الحيّ ذي الأغلبية الكردية. في المدرسة الثانوية صار اسمي "الكردي". كنت أسمع طلاباً يقولون: "هذا كردي ولازم نخاف منه"، إذ تزامنت تلك السنة مع سنة انتفاضة أكراد سوريا، وقمع نظام بشار الأسد لهم. رغم ذلك حاولت أن أكون جزءاً من "شلّة" أصدقاء، لا تنتمي (بعقلها) إلى قطيع الطلاب الذين كانوا في طور تحويلهم إلى نسخ تشبه آباءهم وأمهاتهم. كنا مجموعة، مثل مجموعات أُخرى صغيرة متناثرة هنا وهناك، تغني خارج السرب، نقرأ كتباً مختلفة ونسمع موسيقى مختلفة. كانت لنا أحلام كبيرة بتغيير العالم الذي نبَذَنا، فنبذناه.
إذا ما فكرت بحياتي في سوريا، والتي امتدت لأكثر من عشرين سنة، أحسب أنها كانت كلها منفى، والوطن هو ما خلقته ذاكرتي. أفكر بأنني كنت غريباً هناك، دائماً ما كنت غريباً في المجال العام، وكان لي وطن صغير هو ذاكرتي، شوارع أحببتها، نشاطات قمت بها وأصدقاء يُعدّون، وإلى هذا الوطن أحنّ.
غريب هنا، غريب هناك
قابلت عمتي في هولندا، بعد أربعة عشر عاماً من تاريخ هجرتها النهائية من سوريا. سألتُها: "ألا تفكرين بالبلاد؟"، "كلّ يوم"، قالت. "أفلا تعودين يوماً ما؟"، سألت. فقالت: "يا بني، أنا غريبة هنا، وإن عدت سأكون غريبة هناك. الغربة بين الغرباء أفضل من الغربة بين الأهل في البلاد الأصل". لم أفهم ما عنته حينها. اليوم، بعد عشر سنوات أعيد كلامها في رأسي، وأقول لنفسي: غريب أنت هنا، وغريب أنت هناك.
أعيش في ألمانيا منذ سنوات طويلة. أسست عائلة ألمانية. أعيش في حيّ في العاصمة الألمانية، أعرف الكثير من سكانه ويعرفونني. أعرف أصحاب المحلات والدكاكين والمخابز، ويعرفونني. أعرف الشوارع والبارات والمقاهي، ويعرفني أصحابها. رغم كل ذلك أحسّ بالغربة. أحكي معهم بلغتي الرابعة، الألمانية، التي تعلمتها هنا. هناك أشياء تجمعنا أكثر بكثير مما يجمعني مع تسعة وتسعين بالمئة من الأكراد وتسعة وتسعين بالمئة من السوريين. لكن رغم ذلك، أشعر بأنني لا أنتمي إلى هذا المكان. كيف؟ والله لا أعرف. ما هذا الشعور الذي يبلعني مثل ثقب أسود؟
بنيت في ألمانيا ما بنيته في سوريا: فقاعة لطيفة أحتمي بها، فقاعة تتألف من أشخاص قليلين، ذكريات حلوة وكهف يسمونه بيتي، أعيش فيه مع عائلتي الصغيرة.
أنظر حولي وأنا أكتب: هذه كتبي، وهذا قلمي يابانيّ الصنع وهذا دفتري، هذه باقة من ورد التوليب الأصفر، اشتريتها ظهر اليوم، حين اصطحبت ابنتي الصغيرة إلى المتجر القريب من البيت لنبتاع أغراض العشاء، وهذه صورة ابنتي الحلوة، وهذه طاولتي أجلس إليها وأكتب. هذه أشيائي وهذا بيتي. أقول لنفسي: أليس هذا هو الوطن؟
أبتسم. ما هذا الهراء؟ الوطن يعني حقوقاً وحريات وخبزاً وكرامة وعلاقات اجتماعية وشعوراً بالأمان والاطمئنان و...و...و...
هذا الذي أقوله، فقاعة ألجأ إليها كلّما هربت من حقيقة الحياة.
لا أعرف أجوبة لكل هذه الأسئلة التي تدور في رأسي. كل ما أعرفه هو استحالة أن يكون للإنسان هوية أحادية. هوياتنا مركبة، وربما كلما تعقّدت وازدادت تركيبات الهوية، كلما ازداد شعورنا بالغربة.
حسناً، لست متأكداً مما كتبته للتو. سأنهي النص هنا، وأعود إلى موسيقى شوبان وقصيدة المتنبي التي تقول:
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ/ مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ/ وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ.
Comments