"أحبُّ الأشياءَ من حولي/ أبحثُ عن أجوبةٍ لأسئلةٍ تشغلُ فكري/ أتماهى مع الحبيبِ/ أتقنُ فنون الحبِّ/ أسهرُ مع النجومِ/ لي شرفة لوّنتها بألوانِ النرجسِ/ وأعيشُ حياتي كما ينبغي/ بعيدةً عن أقنعةِ الزيفِ./ الفكرُ ينوءُ بفعلِ الماضي/ ويعصفُ بالأخطاءِ/ وطرق الذلِ./ وأنت تغور في أعماقي ينتفض قدري/ حبّك يمنحني الهدوء/ أشعر بحاجتي إلى عمرٍ جديد".
قصيدة بعنوان "حياتي" لخديجة السعدي
لا يعرف المرء والديه، ولا يعرف أمّه، ولا يعرف أباه، إلّا بما يحكم العلاقة التبعية بين الأبوين والأبناء. لا نعرفُ أُمّنا مثلما نعرفُ أصدقاءنا. نعرف ما يريدوننا أن نعرف فحسب.
لم أكن أعرف من أمّي سوى أنّها أمّي. أعرفُ لمحاتٍ عن حياتها، وعن شخصيتها، وعن تاريخها، لكنني لا أعرفها. مؤخراً، قرأتُ لها قصصاً قصيرة، وقصائد، وهي الكاتبة العراقية خديجة السعدي، فجعلتني أتعرّف على وجوه جديدة لها.
قررتُ التعرّفَ إليها أكثر. قرّرتُ أن أكتب عنها، ومن ثمّ فكرتُ في أنّ أحاورها متذرعاً بإصدارها ديوان شعر جديد. لكن، في الحقيقة، ما أردت معرفته كله، هو أنّ أعرفها أكثر. لماذا؟ لأنّ هوية الأهل تساهم في تشكيل هوية الأبناء، وتاريخهم جزءٌ من تاريخنا. ولأنّ قصتها مميزة، قرأت قصصها القصيرة التي كتبتها، وقرأتُ قصائدها، ورسائلها، وتراتيلها، وحوارات سابقة معها، وحاولت أن أستحضر ذاكرتي معها، كي أستطيع الكتابة عنها، ومحاورتها.
خديجة السعدي، عربية شيعية وُلدت في كربلاء، وأصبحت شيوعية في شبابها، فحُكم عليها مع أخيها، في بدايات سنوات حكم الديكتاتور صدام حسين، وتعرّضت للملاحقة الأمنية. وقبل إلقاء القبض عليها، هربت إلى بغداد، ومن هناك إلى كردستان (أخوها لم يستطع، فقُبض عليه، وأُعدم في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي)، ومن ثمّ إلى إيران. وبعد أشهر عديدة، وصلت إلى سوريا بمساعدة منظمة فتح الفلسطينية، ومن هناك إلى الاتحاد السوفياتي، بدعم من الحزب الشيوعي العراقي.
درسَت الصحافة، وتزوجت رجلاً سنياً كردياً سورياً، ومن ثم عادت معه إلى سوريا، وعاشت هناك سنوات طويلة في محيط عائلة زوجها. بعد انطلاق الثورة السورية في العام 2011، هُجِّرت مع من هُجّروا من البلاد، لتعود إلى كربلاء. وبعد فترة قصيرة، التحق بها زوجها، وأقاما في كردستان العراق سنوات قليلة، قبل أن ينتقلا إلى فرنسا، ويصبحا لاجئَين هناك.
سألتها: لماذا لم تبقي في العراق، بعد خروجك من سوريا، وأنت التي كنتِ تحكين لنا عن العراق دائماً، وجعلتنا نحبّ العراق، من دون أن نراه، عراقك الذي حُرمتِ منه خمسة وعشرين عاماً، حتى سقط نظام صدام حسين، واستطعتِ العودة؟
أجابتني في مرات سابقة، بأنّ قرارها مع أبي، كان اللجوء إلى فرنسا، لأنّ شقيقيَ يعيشان في فرنسا، وأنا أعيش في ألمانيا القريبة منهما، فأرادا أن يكونا قريبين من أولادهما الثلاثة. ومرة أخرى، قالت إنّ المضايقات الأمنية في كردستان العراق، وعدم قدرتها على الحصول على تصريح إقامة هناك، على الرغم من كونها عراقية، والأوضاع الاقتصادية الصعبة، دفعتهما إلى الهجرة. لكنّها أجابت هذه المرة بشيءٍ آخر، إذ قالت: "وطني لم يقدّم لي شيئًا. أنا أقدّم له، وقدّمتُ له الكثير، وفي اعتقادي أنّ أي مكان أنا فيه، هو وطني. سوريا أيضاً وطني، وقد عشت فيها أكثر من العراق. عشتُ أيضاً في مدينة مينسك سبع سنوات، ومينسك أيضاً وطني. أعيش في فرنسا منذ خمس سنوات، وهي أيضاً وطني الجديد".
أضافت بعد لحظات قليلة: "أحمل العراق، وأهلي الذين في العراق، في قلبي أينما حللتُ. لكنّنا، كلّنا، ضحايا الأنظمة التي تحكم أوطاننا".
"وما تعريف المنفى؟"، سألتها. فقالت إنّ المنفى يشبه محطات السفر. "اشرحي لي أكثر". "حسناً"، أجابت مضيفةً: "كلّما انتقلت إلى دولة، كنتُ أعتقد أنّ هذه محطة سفر، وبعدها سأعود إلى العراق، لكنّ المنفى الرئيسي، أي سوريا، صارَ وطناً، لأنّ زوجي وأولادي سوريون".
في حوار سابق مع صحيفة الحزب الشيوعي العراقي، وهي التي تؤمن بمبادئ الشيوعية ولا تحيد عنها، حتى أنّها مستمرة حتى اليوم في عضويتها في الحزب، وفي رابطة المرأة العراقية، سألها المُحاوِر: "كيف تجدين المشهد الثقافي، بعد أكثر من عشر سنوات على سقوط نظام البعث الدموي؟"، فقالت خديجة السعدي: "مهمل... مهمل. من يقود العملية السياسية، يتعمد جعله تعيساً ومهمشاً ومؤلماً. يعملون وفق مفاهيم ورؤية تخدم مصالحهم الذاتية فحسب. الثقافة لا تنمو في أرض قاحلة جرداء".
لذلك سألتها بدوري عن الذي يربطها بالعراق الآن، فأجابت بأنّ أكثر ما يربطها بعراق(ها)، هو آلامه ومآسيه، وأنّ العراق جزء أساسي من هويتها، كما أنّ عائلتها وأقاربها ما زالوا يعيشون في البلاد، لذلك تهتم بكلّ تفصيل يحدث في العراق، ولذلك تدعم، كلّما استطاعت، حركات شبابية، ومراكز ثقافية، مثلاً سيعود ريع ديوانها الشعري الأخير، لدعم الأطفال في مدينة ميسان، عن طريق اتحاد الأدباء والكتّاب في المدينة، وهي الجهة التي قامت بنشر الديوان الشعري.
تقول إنّ علاقتها مع العراق تمتد إلى كتابتها، فكلّ كتابة لها، هي بشكل أو بآخر، عن العراق. وعامل آخر يربطها بوطنها الأم، هو متابعتها الدؤوبة للنشاطات الثقافية التي تجري خارج المنظومة المؤسساتية الحكومية.
بعد سقوط نظام البعث، أصدرت خديجة مجلة تُعنى بالثقافة العراقية، مطبوعة أولاً، ومن ثمّ إلكترونية، لكنها توقفت بسبب قلّة الدعم المادي.
كان اسم المجلة "أصداء"، وطبعت كتابها الشعري الأول "أزهار الفجر" في العراق أولاً، ولاحقاً في سوريا، في طبعة ثانية، وتوالت إصداراتها بعد ذلك، فأصدرت مجموعة قصصية تحت عنوان "قصص صغيرة"، ومن ثمّ ديواناً شعرياً بعنوان "عن الحب والغربة وأشياء أخرى"، ومن ثمّ ديوان "ممرّات العبور" الشعري، ثمّ مجموعة قصصية تحت اسم "عوالم"، وأخيراً ديوانها الشعري الأخير "حصيرة أمّي".
"ما الذي يختلف في الكتابة، حين تكتبين وأنتِ في العراق، أو في الاتحاد السوفياتي، أو في سوريا، أو الآن وأنتِ في فرنسا؟"، سألتها، فأجابتني بأنّها مواطنة كونية، تكتب حين ينتابها شعور ما لا تستطيع وصفه، فـ"الأمكنة لا تهمني في شيء، أنا أتأقلم سريعاً مع الأمكنة. أهم شيء بالنسبة إلي، هو أن أعكس ما في داخلي عبر الكتابة. حبّ الوطن، وحبّ الناس، مُقيمان معي أينما ارتحلت".
سألتها عن علاقتها بفرنسا، فقالت: "أمشي في شوارع فرنسا، وأشعر وكأنّني أنتمي إلى هذا المكان. أشعر وكأنّني أعرف الشوارع، وكأنّني كنتُ هنا في حيوات سابقة. لا أعرف كيف أعبّر عن هذه العلاقة بالضبط، لكن هناك حميمية غريبة مع فرنسا".
تكاد تبلغ خديجة السبعين من عمر طويل صُبغ بصبغة الحبّ، وبألوان المنافي العديدة التي عاشت فيها، وبصبغة نضالها السياسي والثقافي في سبيل قيم آمنت بها طوال حياتها، قيم العدالة والحرية والمساواة في مجتمعات ديمقراطية حرّة. في قصيدتها "بوح"، كتبت خديجة ما يشبه تلخيصاً لسنوات عمرها:
"جافةٌ،
هي سنواتُ العمرِ
فقط، التي تبللتْ بندى العشقِ
بقيتْ دائمة الخضرةِ".
Comments