top of page
صورة الكاتبDellair Youssef

كيف نجهّز صحن الحمّص في بلاد باردة؟


صغاراً أشقياء كنّا، لا مواعيد للنوم عندنا، نبقى مستيقظين مع الكبار إلى أن يهدّنا التعب، فننام في أي مكان يُتاح لنا في البيت، في غرفنا، أو في غرفة المعيشة، أو في أي غرفة أخرى. وفي الصباح، إن لم يكن يوم دوام مدرسي، كأيام الجمعة، وأيام العطل، وأيام فصل الصيف، كنّا ننام حتى ساعة متأخرة في الصباح.

توقظنا الجدّة، أو الجدّ، أو أحد الأبوين: "هيا استيقظوا، لقد حرقت الشمسُ السماءَ، وما زلتم نائمين". يتكرر الأمر نفسه تقريباً في معظم صباحات أيام الصيف، حين ننام جميعاً على الشرفة الواسعة، التي تكاد مساحتها تبلغ مساحة بيتي في برلين.


كنت أستيقظ مرغماً، وأغسل وجهي مرغماً، وأحمل صحناً فارغاً أتوجّه به إلى "فوّال" الحارة، كي أشتري "المسبّحة"، من أجل مائدة الإفطار الصباحي، وأحياناً بعض الفول، وبعض الفلافل. يضع البائع الصحن فوق الميزان، ثمّ يضيف الكمية المطلوبة من المسبّحة، ومن ثمّ يوزّع المادة بالتساوي على مساحة الصحن، بطريقة محترفة، مستخدماً سكيناً أو ملعقة، ومن ثمّ يزيّن الصحن ببعض حبّات الحمّص في المنتصف، وبعض الخيار المُخلّل على الأطراف، ثمّ يرشّ زيت الزيتون فوق المسبّحة، وأخيراً ينثر بعض السُمّاق على الصحن، ويعيد الصحن إليّ مملوءاً بعد أن يأخذ نقوده، فأعود بدوري إلى البيت حاملاً صحن المسبّحة ليزين إفطارنا.


مسبّحة أو حمّص؟

في كلّ المدن التي عشت فيها، باستثناء مدينتي دمشق، يُسمّون المسبّحة حمّصاً، وفي أحسن الأحوال حمّص بطحينة. في دمشق، المسبّحة مسبّحة، والحمّص حمّص. الأمور سهلة وواضحة. في المدن الأخرى، المسبّحة حمّص والحمّص اسمه حمّص حَبْ. ما هذه اللخبطة يا قوم؟


في دمشق اسمها مسبّحة، لأنّ الحمّص، وبعد أن يُخلط بالطحينية، وببعض المنكّهات، يسبح بالزيت؛ زيت الزيتون البلدي. في بقية مدن بلاد الشام، يُسمّون الحمّص (حَبْ) بالزيت مسبّحة، وهذه بدعة.

في برلين، وفي عموم أوروبا، تختلط الأمور على الدمشقيين، فالمطاعم العربية القديمة هي مطاعم الفلسطينيين واللبنانيين الذين هربوا من بلادهم قبلنا، وافتتحوا مطاعم يصنعون فيها طعام "بلادهم"، الذي يشبه طعام "بلادنا" إلى درجة كبيرة.


قبل أن يفتتح الدمشقيون مطاعمهم، كانت الوجهة مطاعم أشقائنا أبناء مدن بلاد الشام، فنقول لهم أعطونا مسبّحةً، فيعطوننا حمّصاً مسلوقاً مغرَّقاً في الزيت، وإن طلبنا منهم بعض الحمّص الحبّ، أعطونا مُسبّحةً، فكنّا تجاوزاً لسوء التفاهم هذا، نشرح لهم نوع الطعام الذي نريد، فيقولون ممازحين، إنّ كلّ شيء في دمشقَ الشامِ معكوس.


صارت بلادنا خراباً، وازدادت أعداد المهاجرين واللاجئين والهاربين من سوريا، ووصلوا إلى بقاع العالم كلها، وإلى ألمانيا وصل مئات الآلاف منهم، وافتتحوا مئات المطاعم التي تبيع الشاورما السورية (أطيب شاورما في العالم)، والفلافل (الفلافل السودانية أطيب، والناس أذواق)، والحمّص، والمسبّحة، والفول، والفتّة، والدجاج البروستد والمشوي، وغيرها من "أكلات الشارع"، وكأنّ المطبخ السوري يقتصر على هذا الطعام فحسب.

على كلّ حال، صرنا نزور المطاعم الدمشقية، ونقول لهم، نريد صحن مسبّحة، فيكون الجواب: "مسبّحة مسبّحة، ولا مسبّحة حمّص؟"


كيف نجهّز المسبّحة؟

لأنّ الحمّص، أقصد المسبّحة، من أساسيات المائدة، صرنا نصنعها في بيوتنا. لا أتذكر أنّ بيت عائلتي، أو أي بيت آخر أعرفه في سوريا، قد صنع المسبّحة في البيت، ففي كلّ زاوية من زوايا سوريا فوّال أو حمصاني، يبيعنا، ويطعمنا، ويزوّدنا بما نحتاج إليه.


هنا، في هذه البلاد الباردة، اكتسبنا مهاراتٍ جديدة في الطبخ، صرنا نجهّز المسبّحة في البيت، ولذلك طريقتان، واحدة معقدة، والأخرى سهلة تتّبعها الغالبية.


الطريقة المعقّدة تعتمد على شراء الحمّص الحَبْ اليابس، ونقعه بالماء ليوم أو أكثر، ومن ثمّ سلقه، ثمّ طحنه، قبل إضافة بقية المكوّنات إليه. أمّا الطريقة الثانية، فتعتمد على شراء علب الحمّص المطحون الجاهز، وهذه سهلة، فدكاكين العرب والأتراك تنتشر في أوروبا، وتبيعنا ما نحتاج إليه في غربتنا عن بلادنا، وطعام بلادنا.


نفتح علبة الحمّص المطحون، ونضعها في وعاء ما، ثم نضيف إليه الطحينة، والكمّون، والليمون، وزيت الزيتون، وأحياناً بعض الثوم. هذه وصفة صديقي وسيم، أما أنا فأفعل مثلما يفعل، وأضيف بعض اللبن الرائب، وهذه لمستي الخاصة التي يرفضها كلّ من عرفها، وإن لم يعرفوا قالوا هذه أطيب مسبّحة في العالم، فاللبن الرائب يغيّر قوام المسبّحة، ويضيف إليها نكهةً خاصةً، لكنهم لا يعلمون.


صراع الحمّص... صراع الجبابرة

كلّ مدينة، وكلّ بلدة، وكلّ شارع في الشرق الأوسط، ينسب الحمّص إلى نفسه، بفاشية لا تحتمل النقاش. ليس الحمّص وحده، بل الفلافل، والسلطات، و"الكبب". صراع مطابخ حلبي دمشقي، ولبناني سوري...الخ. وفوق هذه الصراعات كلها، تأتي إسرائيل وتقول: الحمّص لنا. يا لهذه الوقاحة!


حسناً، في برلين مطاعم من بلاد العالم كلها، من البرازيل وتشيلي، وصولاً إلى الصين واليابان، مروراً ببلاد كوكبنا الصغير كلها، ومَن مثلي يُحبّ الطعام وتجربته، يزور مطاعم كثيرة كي يختار ذائقته، فصرتُ أعرف أنّ هذه الفاشية لا تنفع، فعلى الرغم من فخر الشام بأنواع الفتّات التي تصنعها، لكن أطيب فتّة بحمص، يصنعها مطعم لبناني صغير في شارع زونن آليه، أو شارع العرب، وهو دكان صغير فيه بضع طاولات لم يغيّرها، في الغالب، منذ افتتح المطعم.


أمّا الفطائر، ففي مطعم آخر يقع على بعد مئة متر من مكان الفتّة، والشاورما والدجاج البروستد من مطعم دمشقي يقع في شارع كارل ماركس، وقد يكون طعامه أطيب من الطعام في دمشق نفسها. أما الحلويات، فدمشقية أو حمصية، وفي برلين عددٌ كبير من المحال المختّصة ببيعها. والكبّة ومشتقاتها حلبية على الرغم من صعوبة الحصول على كبّة طيّبة في برلين.


الدجاج المشوي تركي، وفي حي كرويتزبيرغ بعض المطاعم الشهيرة المختصّة بتقديم هذا النوع من الطعام، والسلطات والمازة لبنانية، وبرلين ممتلئة بمطاعم لبنانية. وأما الأرز وما يأتي معه من لحومات، فكردية وإيرانية، وأعرف مطعماً كردياً عراقياً في كرويتزبيرغ البرلينية، يقدّم أشهى أنواع البرياني، والقوزي، ولحم الضأن.


الباستا والبيتزا إيطالية طبعاً، وفي برلين عددٌ كبير من المطاعم الإيطالية، والدجاج المطبوخ بالكاري، وما يشبهه، باكستاني، وبجانب بيتي أحد هذه المطاعم... هكذا إلى ما لا نهاية.

لا فاشية في الطعام، كلّ طعام لذيذ إذا ما عرف صانعوه كيف يصنعونه، والله أعلم!

٧ مشاهدات٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comentarios


bottom of page