أما بعد،
لأخبركم عن أحد أعياد شهر آذار الذي نقف على حدود نهايته. آذار هذا شهر المآسي والأفراح. شهر فاجعة حلبجة، وشهر ولادة الثورة السوريّة. شهر النوروز والربيع وشهر عيد الأم وعيد الشعر. شهر انتفاضة القامشلي 2004، وشهر اعتقال آلاف الشباب. شهر الذكريات التي لا تنتهي.
سأحدثكم عن عيد النوروز، يوم بدء الربيع، اليوم الواحد والعشرين من هذا الشهر، حسب تقويمٍ اعتمد الأشهر الميلاديّة. عيد نوروز، عيد الكُرد الذي ينتمي إليهم أبي. لا أرغب في التحدث عن تاريخ هذا العيد وعن دلالته ورمزيته ونضال الكُرد من أجله، كلّ هذا لا يهمني، بل يهم الدارسين والباحثين في التاريخ، ما يهمني هو ذاكرتي معه. هذا العيد الذي لم أحتفل به منذ أكثر من عشر سنين.
حين كنا صغاراً، قبل موت أخي، قبل موت جدي، قبل أن تبدأ مصائب عائلتنا، قبل أن تبدأ الثورة وينزف الدم على خارطة
البلاد من جنوبها إلى شمالها القاسي، كانت عائلتي تحتفل بعيد النوروز.
حين كنّا صغاراً، كانت عائلتي تسكن في مدينة القامشلي، صدفة الشمال السوري. كان العالم أصغر، كانت دمشق الشام بعيدة جداً، والدول الأخرى كانت كواكب بعيدة. حينها كنا نحتفل بفرح. لا أذكر سياسة تلك الفترة الزمنيّة، لكن يبدو لي الآن أنّ حافظ الأسد كان قد سمح للكرد بالاحتفال بضع سنين من دون أن يقتل أو يسجن أحداً منهم خلال تلك الفترة التي لن تستمر طويلًا. لحسن الحظ أنّني حي، لأشاهد هذه الاحتفالات، وأخزنها في ذاكرتي.
كان أخي الكبير يذهب مع أصدقائه في الصباح الباكر جداً، قبل طلوع الفجر أحياناً، لينصب خيمة عائلتنا في مكان مناسب في منطقة الاحتفال الرئيسيّة. كنّا نذهب، نحن باقي أفراد العائلة، في السابعة أو الثامنة صباحاً.
طريق الذهاب والعودة كان مشياً في معظمه، كنّا نمشي بين الآلاف من الناس المتّجهين إلى مكان الاحتفال. هذا المكان كان سهلاً أخضر ممتدّاً إلى بعيد لا نعرف أين ينتهي. لكننا كنّا نعرف حدودنا، الحدود التركيّة التي لا نستطيع تجاوزها.
كانت الأمهات يحضرْن الطعام، والآباء يجهزون اللحوم لشويها، والشباب يعزفون الموسيقى ويرقصون ويبحثون عن عشيقات أو عاشقين. ونحن، أطفال الله الفقراء، نجد لأنفسنا ألعاباً لا تكلّف عائلاتنا الكثير من النقود. عائلاتنا المسكينة التي تدخر النقود لشهور كي تحتفل في هذا اليوم مثل الناس جميعاً، كي لا يُعاب علينا فقرنا. ربما هذه ظاهرة تستحق اهتمام الباحثين، كلّهم فقراء، لكنهم متصنّعون أمام بعضهم البعض.
كانت لعبتنا المفضلة، كما كلّ الأولاد الفقراء في هذا العالم، هي كرة القدم. أذكر أنّنا احتفلنا مرة وكنّا، أحد إخوتي الثلاثة وأنا، نرتدي زي المنتخب البرازيلي الرسمي، منتخب عائلتي. لنا صورة توثق هذه اللحظة. كنت روماريو وكان أخي بيبيتو.
كانت لنا ألعاب أخرى، كأن نعد الخطوط الأفقيّة على سكة القطار التي تستلقي بجانبنا، أو مثلاً أن نبحث عن طريقة لفك مفاصل هذه السكة، وهذه كانت لعبتنا المستحيلة التي لم ننجح فيها يوماً.
كانت السعادة والحب تطغى على هذا المكان في هذا اليوم.
مرة في دمشق، حين انتقلنا للعيش في العاصمة كان الاحتفال يتم في حي تشرين شرق المدينة، بدأ أحد إخوة والدي العزف على آلة الطنبور، هذه الآلة الموسيقيّة التي لا يخلو بيت كردي منها، وبدأ الغناء مع بعض المحيطين بنا. ما لبث المكان أن تحول إلى ما يشبه العرس. أقيمت هناك واحدة من أجمل وأبسط وأكثر الرقصات عفويّة، واحدة من تلك التي من الممكن أن يشاهدها المرء مرة واحدة في حياته فقط.
ربما قد كبرنا، هرمنا، ربما نشعر بالخوف أكثر، بالقلق والأرق أكثر، ربما الزمان قد تغيّر، ربما أصبحت معرفتنا بالأمور أكبر، ربما أصبحت مسؤولياتنا أكبر، ربما وربما وربما، لكن بكلّ تأكيد أنّنا كنّا نفرح أكثر، كنّا نضحك أكثر، كانت الحياة أسهل وأقل تعقيداً وأكثر حبًّا، وكان نوروز في تلك البلاد أجمل.
Comments