إلى محمد، البحّار الذي لا أعرفه*
حين أردت أن أنتحر
وقفت فوق جسر حديديّ السياج، نظرت إلى الأسفل، فرع صغير من نهر الراين يمرّ فيما يشبه وادٍ صغير. صخورٌ وحجارة كبيرة تنتظرني في الأسفل. قفزة واحدة وينتهي كلّ شيء. أعرف هذا المكان جيدًا، منذ شهور وأنا أزور هذه المدينة الصغيرة، من أجل متابعة أوراق لجوئي ومن أجل أمور متعلقة بمخيم اللاجئين ومن أجل قضاء بعض الوقت فيما يشبه المدينة، الواقعة على بعد أكثر من عشرة كيلومترات إلى جهة الغرب من القرية التي يقع فيها مخيم اللجوء الذي أسكن فيه.
رنّ هاتفي في تلك اللحظة. نظرت إلى الأسفل. نظرت إلى هاتفي. حبيبتي تتصل من سوريا. أنظر إلى الصخور التي تنتظر رأسي لتحطّمه. أنظر إلى الهاتف الذي لم يتوقف عن الرنين المزعج. أنظر إلى المياه التي ستختلط بدمائي بعد قليل. الهاتف يرّن. أنظر إلى الناس حولي، لا أحد يأبه بشاب يقف على الجسر ويحمل هاتفه المحمول بيد وبيدٍ أخرى يمسك حديد سياج الجسر البارد. الهاتف يرنّ. أفكر بحياتي وبكآبتي المستدامة وأنظر إلى الأسفل. بحركة لا إراديّة رفعت الهاتف وتكلمت مع حبيبتي، من أصبحت حبيبة سابقة لاحقًا، لكنها في ذلك اليوم أنقذتني من القفز. لا أذكر ما الذي حكيناه حينها، لكنّني أذكر أفكاري المتمحورة حول سرعة إنهاء المكالمة ومن ثم القفز وإنهاء حياتي.
انتهت المكالمة وأصابني خوف شديد من الارتفاع، خفت من الموت وأنا الذي أنتظره لينهي كآبتي وحياتي في مخيم اللجوء اللعين، أنتظره لينهي كلّ حمل الذاكرة الذي أتعبني، لكنني خفت، جبُنت، ولم أقفز. عدُّت مشيًا إلى غرفتي في مخيم اللاجئين. مشيت ثلاثة عشرة كيلومترًا تحت المطر. وصلت مبتلًا حتى عظامي. سألني زميل الغرفة عمّا حدث لي. لم أجبه. غسلتُ جسدي بمياه ساخنة. عدت إلى غرفتي، بكيتُ بصمتٍ في سريري مثلما كنتُ أفعل في كثير من الليالي، ونمتْ.
لم تفارق هذه الحادثة ذاكرتي مذاك. كلّما مررت بلحظات ضعف ولحظات اكتئاب عميق (هذا المصطلح استعملته طبيبتي في وصف ما أصابني إضافة إلى التراوما (الصدمة النفسيّة)، أتذكّر وقوفي على الجسر واستعدادي للقفز. فكرت بالانتحار مرات لا تحصى، لكن أشياء أكبر من إنهاء حياتي كانت توقفني: الحب، الاهتمام، خوفي على أشخاص أحبهم من الحزن، المسؤولية نحو ابنتي، الأهداف التي أريد تحقيقها….الخ. مئات الأسباب التي دفعتني إلى عدم الانتحار والبحث عن علاج لما أصابني من صدمات وكآبة.
لم أكن وحيدًا.. الاندماج ومتطلبات "سوق اللاجئين"
لم أكن وحدي في هذا، كثير من الأصدقاء حولي لديهم مشكلات مشابهة، وأخصّ أصدقائي ومعارفي السوريين ممن تركوا البلاد بعد العام ٢٠١١ وانتقلوا للعيش في المدن الأوروبيّة المختلفة. لم يكن التكيّف والاندماج مع البيئة الجديدة سهلًا على السوريين، وخاصة أنّ معظمهم تركوا بلادهم مجبرين، بعد أن ذاقوا ويلات دكتاتوريّة نظام الأسد وويلات حرب أهليّة مفتوحة ما زالت مستمرة حتى اللحظة.
طُلب من اللاجئين السوريين (على الأقل أتحدث عن ملاحظاتي الشخصيّة في الدول الأوروبيّة) أن يندمجوا مع مجتمعاتهم الجديدة في أسرع وقت ممكن، وأن يكونوا جزءًا من سوق العمل، وأن يتحولوا إلى منتجين، عوضًا عن أن يكونوا عالة على هذه المجتمعات، وهذا يعني أن يتعلموا لغات جديدة ويطوّروا مهاراتهم وأن يجدوا عملًا، أي أن يكونوا مواطنين صالحين، وكلّ ذلك في سرعة قياسيّة.
هذا المنطق تجاهل بشكل مطلق حاجات السوريين النفسيّة وأوضاعهم في بيئاتهم الجديدة، فضلًا عن العوارض التي تنتج من القلق على العائلات التي ما تزال تعيش في سوريا.
أسئلة قصيرة لعينة عشوائية
من أجل هذا المقال، نشرت أسئلة قصيرة على شبكة الانترنت مستهدفًا عيّنة عشوائيّة من السوريين الذي وصلوا إلى أوروبا بعد عام 2011. إحدى الأسئلة الرئيسيّة كانت عن اعتقاد الشخص بإصابته بإحدى الأمراض النفسيّة المتعلقة بالحرب/ المنفى/ اللجوء، مثل الاكتئاب أو القلق أو اضطرابات ما بعد الصدمة أو الاضطراب ثنائي القطبية أو انفصام في الشخصيّة؟
استجاب لهذا السؤال 120 شخص أجاب 92 منهم بنعم وهي نسبة 76,7 ٪ من المستجيبين، وأجاب 22 شخصًا بلا أعرف وهي نسبة 18,3 ٪ من المستجيبين، وأجاب ستة أشخاص فقط بنسبة 5 ٪ لا؛ لا يعتقدون بأنّهم مصابون بإحدى الأمراض النفسيّة المتعلقة بالحرب/ المنفى/ اللجوء.
عن هذه النسبة الكبيرة، يقول لحكاية ما انحكت الأخصائي النفسي المقيم في برلين أغر جديد، إنّها نسبة صحيحة وصحيّة "أستطع أن أرى ذلك عن طريق الناس الذين ألتقي بهم". يقول جديد، لكنّه يرفض أن يسميّها أمراضًا نفسيّة، بل يقول هي "صعوبات في التكيّف"، وأسباب هذه الصعوبات هي ماضي أولئك الأشخاص في سوريا أو ربما بسبب البيئة الجديدة التي يعيشون فيها "إذ قد تكون الأشياء الجديدة التي يختبرونها في الحياة مستفزّة لأمور قديمة ما زالت ذكراها مخبأة داخل المرء".
"ذاكرة ثقيلة" في بلجيكا
تأثر آرتينو (٣٥ سنة ومقيم في بلجيكا) بإصابات الحرب وبالعمليات الجراحيّة التي أجراها وباعتقاله السابق لدى نظام الأسد، مما جعل ما أصابه نفسيًا يؤثر عليه بشكل فيزيائي ويتحول الأمر إلى أمراض فيزيائيّة.
غادر آرتينو الغوطة الشرقيّة في 2015 بعد إصابته في الركبة متوجهًا إلى لبنان. كان يعمل في الغوطة الشرقيْة كمصور صحافي لصالح وكالة رويترز، بالإضافة إلى عمله كناشط إغاثي. هذا العمل أتاح له رؤية الكثير من المصائب والصعاب، مما خلق لديه "ذاكرة ثقيلة". بعد بيروت انتقل إلى بلجيكا عن طريق أحد برامج الأمم المتحدة.
في بيروت عانى آرتينو من موجات كآبة شديدة. وبعد وصوله إلى أوروبا حاول إيجاد رعايّة طبيّة نفسيّة، فتوّجه إلى دائرة اللجوء وإلى دائرة الشؤون الاجتماعيّة دون أن يبدوا أيّ اهتمام بحالته النفسيّة. ازداد الأمر سوءًا؛ عصبيّة وعنف وعدم تحمّل الأصوات العاليّة، إضافة إلى نوبات هلع كانت تنتابه. خلال بحثه عن مساعدة وجد منظمة CGG Vagga، واستمر في مقابلة المعالجة النفسيّة التي تعمل مع هذه المنظمة لمدة سنتين. كان العلاج مدفوعًا لكن بمقابل بسيط (٤ يورو في الساعة الواحدة). وتمّ تشخيص ما يصيبه باضطراب ما بعد الصدمة. استعان لاحقًا بمعالجة أخرى في هولندا وهي اخصائية اضطراب ما بعد صدمات الحرب. لم يستفد كثيرًا خلال الشهور الخمس التي تعامل فيها مع هذه المعالجة إلّا أنّه استطاع أن يحدد ما به بدقة أكثر. ثم استعان بطبيبة أخرى مقيمة في بلجيكا. في شهر تشرين الثاني ٢٠١٩ وصفوا له حبوب اكتئاب، وذلك بعد استشارات كثيرة ومراقبة مكثّفة ومتابعة بشكل كامل من قبل الطبيب العام.
معظم السوريين "مازالوا يعيشون الصدمة"
يقول آرتينو إنّه أفضل حالًا اليوم ولا يجد ضيرًا في مشاركة قصته مع الآخرين لأنّ ما أصابه أصاب الكثير من السوريين، كما يعتقد، وإنّ "مثل هذه الحالات النفسيّة، وإن كانت فرديّة عادة إلّا أنّها في الحالة السوريّة تعتبر حالات جماعيّة بسبب تشابه الأحداث".
توافق "رنا الصيّاح"، وهي محلّلة نفسيّة مقيمة في فرنسا، على الفكرة السابقة وتضيف بناء على تجربتها بأنّ معظم السوريين "مازالوا يعيشون الصدمة، أو إنّهم منكرين لما مرّوا به، ربما لأنّ ذلك يمسّ بنرجسيّة الشخص".
من يلجأ لطبيب نفسي؟
في سؤال آخر من ضمن الأسئلة التي نشرتها من أجل هذا المقال، وتمت الإشارة إليّها سابقًا، طلبتُ من المستجيبين الإجابة بنعم أو لا على تفكيرهم باللجوء إلى أحد الاخصائيين النفسيين أو عيادات الطب النفسي؟
استجاب 109 أشخاص إلى السؤال وأجاب 94 شخصًا منهم بنعم وهي نسبة 86,2 ٪ وأجاب 15 شخصًا بنسبة 13,8 ٪ لا.
لكن، ورغم هذه النسبة الكبيرة إلّا أن الكثير من السوريين لا يهتمون بحالاتهم النفسيّة حتى يؤثر ذلك عليهم بشكل فيزيائي مثلما حدث مع بسّام (اسم مستعار، 40 سنة ومقيم في برلين). فقد عاش بسام فترات وحدة وانعزال اجتماعي اختياري. تحوّل ما يعانيه إلى ألم جسدي، وجع في الظهر ضعف عام، صعوبة في الحركة، رعب من المستقبل، نوبات هلع، عدم القدرة على النوم، وعند النوم يحلم بأنّه معتقل في سوريا، وهو الذي كان قد اٌعتقل مرتين سابقًا لفترات قصيرة. لم يعرف الأطباء ما به حتى توجه إلى مستشفى الشاريتيه في برلين بسبب وجود أطباء ناطقين بالعربيّة، ولاحقًا استعان بمنظمات لديها برامج مخصصة لمساعدة اللاجئين نفسيًا.
كذا الأمر حدث مع ماريا (اسم مستعار 32 سنة ومقيمة في أمستردام)، والتي بدأت تُصاب بحالات توتر أثرت عليها فيزيائيًا، حيث كانت تُصاب بما يشبه الشلل فاقدة النطق مترافقًا مع تنفس بطيء ودقات قلب بطيئة وعدم استجابة فيزيائيّة، وذلك قبل أن تبدأ رحلة علاج طويلة من بيروت وصولًا إلى مركز Centrum'45 Amesterdam في العاصمة الهولنديّة، وهو مركز بحثي يهتم بالصدمات النفسيّة (التراوما) المتعلقة بالحرب.
تقول المحلّلة النفسيّة رنا الصياح أنّ "من يتوجهون لعيادات الطب النفسي هم أولئك الذي يتأثرون بشكل فيزيائي: لا يستطيعون النوم، يعانون من الفوبيا، القلق، عدم القدرة على النوم، سماع أصوات…" وتضيف إنّ "قليل من الناس يذهب لطلب المساعدة ويعترف بالحاجة إلى المساعدة، وذلك بسبب قلة الوعي بالأمور النفسيّة في مجتمعاتنا، فهناك الوصمة وعار المرض النفسي فيعمد الكثير من الأهالي إلى منع أولادهم من التوجّه إلى عيادات العلاج النفسي. فلا يتوجهون إلى المعالجين إلّا عند الوصول إلى أماكن خطرة كالانتحار".
يوافق الاخصائي النفسي أغر جديد على ذلك، إذ يقول إنّه "لا توجد ثقافة نفسيّة منتشرة في المجتمع السوري، ولا توجد ثقة بطريقة العلاج. أكثر جملة أسمعها هي "يعني إذا قعدت أحكي معك بتنحل مشكلتي؟"
عدّم توجّه السوريين لعيادات الطب النفسي أو إلى المحللين والاخصائيين النفسيين، له عدّة أسباب ومن الممكن اختصارها بالنقاط التالية:
عدم وجود ثقافة نفسيّة في المجتمع السوري، وعدم ثقة بالمعالجين والمحللين النفسيين، وكذلك الخوف من الوصمة الاجتماعيّة قد يكون سببًا في ابتعاد الأفراد عن هذا النوع من العلاج.
اللغة. اللغة هي عائق أساسي أمام السوريين المقيمين في أوروبا، وأحيانًا يتم الاستعانة بالمترجمين لكن هذا يخلّ بشرط وجود بيئة آمنة وسياق بناء الثقة بين المحلل أو المختص النفسي والشخص، إذ أنّ وجود طرف ثالث قد يؤثر على هذه العملية.
في هذا السياق يحكي أغر جديد، أنّ على المعالج أو المحلل النفسي أن يتحلى بعدة صفات أهمها؛ التعاطف وعدم الحكم على التصرفات والقدرة على بناء الثقة. بعض المعالجين ليس عندهم القدرة على توفير هذه الأساسيات وهذا قد يدفع الأشخاص إلى التوقف عن الاستعانة بأولئك المعالجين والإخصائيين.
عدم وجود منظمات تعمل مع اللاجئين على الأمور النفسيّة. ففي فرنسا مثلًا، وحسب المحلّلة النفسيّة رنا الصيّاح، لم يستقبل أيّ مركز علاج نفسي في فرنسا السوريين. أما المنظمات التي توفر جلسات نفسيّة كتلك التي في ألمانيا أو تلك التي تتم عن طريق الأنترنت فهي تعتمد على جلسات قصيرة وسريعة، إذ يخصص للشخص اثني عشرة جلسة كحد أقصى. كما أنّه يتم التعامل مع معظم السوريين على إنّهم مصابون باضطراب ما بعد الصدمة وهو ليس صحيحًا بالضرورة.
بشكل عام مشكلات المنظمات تتمحور حول التنظيم السيء وعدم وجود تمويل كاف لمشاريع المعالجة النفسيّة وعدم وجود أخصائيين نفسيين، حيث يكون عادة المساعدون النفسيون متطوعون وهم ذو خلفيات واختصاصات مختلفة، وغير ذلك من مشكلات المنظمات التي لا تنتهي.
التكلفة الماديّة للعلاج النفسي، فعادة لا يغطي التأمين الصحي مصاريف العلاج أو التحليل النفسي، وهذا يقف حائلًا أمام قدرة اللاجئين، أصحاب الدخل المحدود، على الحصول على خدمات العلاج والتحليل النفسي.
لا شكّ أنّ هناك نقص على مستوى العالم بالاهتمام بالتحليل النفسي والمعالجة النفسيّة، وهذا يؤدي إلى عدم وجود حلول سريعة للمشكلات النفسيّة، وأخصّ بالذكر السوريين، ممن عاشوا تاريخًا كثيفًا من الألم، ولا أجدّ في نهاية هذا المقال خيرًا مما قاله الاخصائي النفسي أغر جديد خلال حديثنا: "الحل موجود على المدى البعيد وهو، أيّ الحل، يكمن في زيادة الوعي الاجتماعي بالثقافة النفسيّة وأهميتها".
ملاحظة لا بد منها:
وصلتني الكثير من الرسائل وقابلت الكثير من الناس ممن شاركوني تفاصيل عن حياتهم وعمّا عانوه نفسيًا. ولولا ثقتهم لما استطعت كتابة حرف واحد من هذا المقال، وأودّ أن أخصّ بالذكر القبطان محمد الذي لا أعرفه ولم ألتقِ به قط. لقد أرسل لي محمد رسالة مطوّلة عن طريق الأسئلة التي نشرتها من أجل كتابة هذا المقال، وكنت قد فتحت في أحد الأسئلة باب المشاركة (هل تريدون أن تشاركونا بعض الأفكار المتعلقة بالموضوع، أو أن تشاركونا قصصكم الشخصيّة؟) ومن هنا وصلتني الكثير من الرسائل. حكى لي محمد في رسالته تفاصيل كثيرة عن حياته وعن نفسه. أحبُّ أن أهدي هذه المقالة إلى محمد الذي لا أعرفه، تعبيرًا عن امتناني لمشاركته تفاصيل من حياته معي.
Comments